نشرت صحيفة Liberation الفرنسية تقريراً حول وصول عائلات يمنية إلى إسرائيل واختفاء بعض الأطفال.
تقول الصحيفة إن بعضهم تم تبنيهم في حين استخدم الآخرون كـ"حقول تجارب" في المجال الطبي. وبعد مرور 50 سنة على هذه الأحداث، وفي ظل الضغط الذي مارسته وسائل الإعلام فضلاً عن الأسر، فتحت الحكومة أرشيف هذه القضايا الشائكة.
من جانبها، تعتقد يونا يوسف، التي تبلغ 85 سنة، وهي جدة يهودية من أصل يمني أنها ستتمكن قريباً من معرفة تفاصيل ما حدث لشقيقتها الصغيرة، سعدى. وقد اختفت سعدى في ظروف غامضة في مطلع الخمسينيات، وذلك بعد وقت قصير من وصولها رفقة عائلتها إلى إسرائيل. وتأمل يونا أن تتمكن من احتضان أختها مرة أخرى.
آلاف الأطفال تبخروا
تعتبر قصة اختفاء هذه الفتاة واحدة من الحوادث التي جدت في صفوف الآلاف من الأطفال الذين "تبخروا" بعد وصول ذويهم إلى "أرض الميعاد". وفي السجلات الرسمية، تم تصنيف حالات اختفاء الكثير من الأطفال على اعتبارها حوادث وفاة جرّاء أخذ تلقيح ما أو بسبب الإصابة بمرض مجهول.
في المقابل، لا تعد حيثيات هذه القصة بهذه البساطة. فبعد فترة وجيزة من قيام إسرائيل سنة 1948، استقر مئات الآلاف من اليهود القادمين من الدول العربية ومنطقة البحر الأبيض المتوسط في إسرائيل. ونظراً لأن بلدهم الجديد كان في حالة حرب، في حين كانت مؤسساته، التي أُنشئت حديثاً، تشوبها الفوضى، فضلاً عن أن اقتصاده كان يشهد تدهوراً كبيراً، استُقبل جميع القادمين بشكل سيئ للغاية. علاوة على ذلك، كان جميع القادمين الجدد من اليهود الشرقيين (يهود مزراحيون)، الذين تحتقرهم الدولة الإسرائيلية، التي تتكون بالأساس من اليهود الأشكناز، الذين ينحدرون من أوروبا الشرقية.
تجارة بيع الأطفال
تقرير صحيفة Liberation يقول إنه سنة 1949 وسنة 1950، وصل قرابة 48 ألف يمني يهودي إلى إسرائيل، كجزء من عملية "بساط الريح"، التي أُطلقت بدعم من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وفي الأثناء، تم رش هؤلاء اليمنيين بمبيدات الحشرات، وحرموا من هوياتهم، فضلاً عن أنه تم إيواؤهم في مخيمات بدائية. والجدير بالذكر أن اليهود الذين قدموا من الشرق تعرضوا لسوء معاملةٍ لم يسبق لها مثيل.
في الواقع، كان اليهود المزراحيون شديدي التدين، حيث كانوا يعتقدون أن النبوءة التوراتية التي تتعلق بقدومهم إلى إسرائيل قد تحققت، فضلاً عن أنهم كانوا يظنون أنهم سوف يعيشون في نعيم مطلق. في المقابل، أصيب هؤلاء اليهود بخيبة أمل كبيرة عندما أصبح أطفالهم الصغار في عداد المفقودين لأيام وأسابيع، حتى علموا في وقت لاحق أنهم قد ماتوا، دون أن يتمكنوا من معرفة السبب الحقيقي وراء ذلك.
ووفقاً لبعض المصادر، فقد اختفى بين 1000 و5000 طفل آنذاك. وفي هذا الصدد، أوضحت الكاتبة، إيريس إيليا كوهين، التي اختفى أحد المقربين منها منذ 50 سنة أن "كل هؤلاء الأطفال قد فارقوا الحياة بطريقة متشابهة. ففي معظم الحالات، كانت الممرضة أو الطبيب يُخبران الأم أن طفلها قد مات جرّاء الاختناق أو نتيجة إصابته بفيروس غير معروف".
وأضافت كوهين أن "آباءنا كانوا فقراء وغير متعلمين، فضلاً عن أنهم كانوا لا يتكلمون اللغة العبرية بطلاقة. وفي ظل حالة الحزن التي تعتريهم على خلفية موت أبنائهم، كانوا لا يطرحون الكثير من التساؤلات بشأن ذلك. وفي حال بادروا بالاستفسار عن سبب الوفاة، غالباً ما تأبى الإدارة التعاطي معهم. فقد كانت الإدارة الإسرائيلية تنظر إليهم بازدراء، علماً وأنها كانت تخضع لسيطرة حكومة حزب العمال، برئاسة دافيد بن غوريون.
تعاملوا معهم بتعال واحتقار
وتابعت كوهين قائلة: "كان ذوونا يتعرضون للتجاهل من قبل الأطباء اليهود الذين ينحدرون من أصول أوروبية، حيث كانوا يعاملونهم بتعال واحتقار". ورغم كل ذلك، لم يتبادر إلى ذهن معظم عائلات المفقودين أي تفسير آخر فيما يتعلق باختفاء أبنائهم، علماً وأنهم لم يفقدوا الأمل مطلقاً بشأن العثور على أحبائهم. وبعد مرور أكثر من 75 سنة، علمت بعض المصادر أن بعض المفقودين لا يزالون على قيد الحياة.
ففي الواقع، تم بيع بعض الأطفال الذين من المفترض أنهم قد فارقوا الحياة، لأسر غربية كانت ترغب في التبني. في الوقت ذاته، تم نقل العديد من هؤلاء الأطفال إلى تجمعات سكنية جماعية، (كيبوتس) وذلك بغية غرس ثقافة التغريب في ذواتهم، في حين استخدم البعض الآخر كحقول تجارب علمية، التي كان يذهب ضحيتها الكثير منهم.
كذب الدولة
في هذا السياقوفق صحيفة Liberation، أوردت، يوسي غامليل، التي تنتمي إلى أسرة يمنية، أنه "عندما أعلن الأطباء أن أخي الصغير يوحنان، الذي كان يبلغ من العمر 9 أشهر، في ذلك الوقت، لم يتحمل اللقاح وتوفي، أصيب أبي وأمي بصدمة كبيرة واعتبرا أن اختفاء يوحنان هو بمثابة خدعة قذرة. من جانبي، لم أصدق مطلقاً تلك الرواية، واستمريت في البحث لعدة عقود لأكتشف أن رفات أخي قد دفن على عجل، وبطريقة غريبة، في قبر شخص آخر. ولكن من قام بدفنه؟ لا أعرف؟ لماذا؟ ما زلت لا أملك الإجابة عن ذلك".
منذ الستينيات، تم تعيين محققين، تحت ضغط من العائلات المنكوبة، لكشف الغموض الذي كان يشوب قضية موت أبنائهم، إلا أن هؤلاء المحققين قضوا معظم وقتهم في مماطلة هذه العائلات.
استمر ذلك إلى أن وقعت حادثة ربيع سنة 1994، حيث تحصن الحاخام أوزي ميشلام، الذي كان يعمل في السابق ضابطاً في الاستخبارات العسكرية والذي ينحدر من أصول يمنية، مع بعض المؤيدين لقضيته في أحد منازل يهودا (تقع في ضواحي تل أبيب) وهددوا بتفجير الحي عن طريق قنابل الغاز، في حال لم يتم الكشف عن حقيقة الأطفال المفقودين.
وفي الأثناء، تم احتواء الموقف من قبل وحدة خاصة من الشرطة، بعد تبادل إطلاق النار، ليحكم على ميشلام ومؤيديه بالسجن. على الرغم من دخوله السجن، تمكن ميشلام، في نهاية المطاف، من تحقيق مبتغاه. فقد نجح في تحويل القضية التي لطالما تم التستر عليها وقمعها من قبل السلطات الإسرائيلية إلى قضية رأي عام.
في الواقع، أجبرت هذه الحادثة الحكومة على بعث لجنة جديدة للتحقيق في حيثيات هذه المسألة، علماً وأن هذه اللجنة توصلت، في النهاية، إلى استنتاجات مقنعة أكثر.
تجدر الإشارة إلى أن هناك أدلة واضحة تحيل إلى أن الحكومة الإسرائيلية قامت بخلق العديد من الأكاذيب، حتى تتستر على الفظائع التي ارتكبتها. في سنة 1998، قدمت سيدة يهودية أميركية، ذات شعر وبشرة سوداء، تدعى، تزيلا ليفينيا إلى تل أبيب للعثور على عائلتها البيولوجية، بعد أن أخبرتها والدتها أنها قد تبنتها من عائلة كانت تعيش في مخيم يقع شمال المناطق التي تحتلها إسرائيل.
تطورات جديدة
بفضل الإعلانات في الصحف، توجهت 15 عائلة من أصل يمني إلى محام إسرائيلي، يدعى رامي تزوباري، لطلب المساعدة. ومن بين تلك العائلات وفق صحيفة Liberation عائلة العميسي، التي أعلنت قبل 50 سنة عن اختفاء أحد أطفالها. وقد كانت الأم، مغالية العميسي صورة طبق الأصل عن ابنتها الثانية يهوديت، التي فقدتها قبل زمن طويل. وقد أثبت اختبار الحمض النووي الذي أجري في الجامعة العبرية في القدس صحة شكوك النسب تلك.
في الواقع، دفعت كل هذه التطورات الجديدة الحكومة إلى فتح الملفات القديمة المتعلقة بهذه القضية. وفي نهاية صيف 2016، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أخيراً، المضي قدماً في هذه المسألة، على خلفية الضغط الذي سلطته وسائل الإعلام وعائلات المفقودين، الذين انتُخب البعض منهم في البرلمان الإسرائيلي، على حكومته.
وفي سياق متصل، قامت لجنة خاصة في الكنيست بفحص عدد هائل من الرسائل والصور والتقارير والأدلة. ومن خلال البحوث المتواصلة، اكتشفت اللجنة الكثير من المستجدات، التي تدين إسرائيل في قضايا الاختفاء. وفي سلسلة من الرسائل التي كتبت في أوائل الخمسينيات، رحّب العديد من مدراء المستشفيات الكبيرة لدولة إسرائيل الفتية، بامتلاكهم "لعينات وفيرة جداً"، في إشارة للأطفال من الأسر اليمنية، في روش هاعين، وهي قرية صغيرة اقتيد إليها الكثير من اليمنيين. كما نوهوا إلى نجاعة هذه العينات لإجراء التجارب الطبية.
وفي هذا السياق، صرح عضو الكنيست عن حزب الليكود، أمير أوهانا، أنه وجد شهادة لإحدى الممرضات، تصف من خلالها كيف كان الأطباء يحاولون معرفة السر وراء امتلاك اليمنيين لقلب قوي. علاوة على ذلك، تضمنت الشهادة صوراً لبعض الأطفال المفقودين كتب عليها بخط اليد كلمة "رات" rate، إلا أنه لم تفهم دلالة تلك العبارة بالضبط.
"الدم الزنجي"
من ناحية أخرى، تظهر الوثائق ذاتها أن بحوثاً حول أمراض القلب، وأخرى بشأن ندرة مرض السكري في صفوف السكان اليمنيين تم تمويلها من قبل معهدٍ أميركي. وتجدر الإشارة إلى أنه قد تم انتزاع ستين قلباً والتخلص منها بعد إجراء جملة من الاختبارات عليها.
وفي الأثناء، كشفت سجلات أخرى، يعود تاريخها إلى الفترة الفاصلة بين سنة 1949 وسنة 1950، أن الرجال البيض كانوا يجرون العديد من الأبحاث بشأن ما إذا كان "الدم الزنجي" يجري في عروق اليمنيين وما إذا كانوا أقل عرضة من غيرهم للإصابة بالملاريا. وخلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر من سنة 1952، تم نشر نتائج هذه الأبحاث في مجلة "ذا لانسيت" العلمية.
وفق صحيفة Liberation فقبل التحصن بذلك المنزل في يهودا، اتهم الحاخام أوزي ميشلام السلطات الإسرائيلية بتبني "ممارسات نازية"، في أوائل الخمسينيات أي بعد خمس سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية. والجدير بالذكر أن موقف ميشلام أثار جدلاً كبيراً على الساحة السياسية الإسرائيلية. وفي سنة 1995، أكدت عدة ممرضات للجنة التحقيق البرلمانية أن "ما لا يقل عن أربعة أطفال لقوا حتفهم بعد تلقي علاجات تجريبية".
وفي هذا السياق، قال إيغال يوسف، وهو سليل عائلة يمنية كانت ضحية اختفاء أحد أقاربها، إنه "يجب عليهم تخطي هذه المسألة مهما كلف ذلك". في أعقاب التحقيقات، قدم إيغال للنواب العديد من النسخ لشهادات وفاة وُقعت بشكل مسبق. ومن هذا المنطلق، يمكن الجزم بأنه كان من المقرر مسبقاً خطف هؤلاء الأطفال وقتل البعض منهم.
وفي الإطار ذاته، قال إيغال إن "آباءنا تعرضوا لسوء المعاملة من قبل المؤسسات الطبية الإسرائيلية التي اعتبرت أطفالنا حقول تجارب بشرية. وباسمي واسم كل العائلات التي لاتزال تكافح لمعرفة الحقيقة، أقر بأني لا أعتزم الانتقام وإنما لا أريد سوى تحقيق العدالة".