لم تتبقّ لي إلا بعض الصفحات من رواية بدأت قراءتها منذ أكثر من شهر، لكنني عندما بحثت عنها في مكتبتي لأكملها لم أجدها، فتّشت بلا جدوى في كل مكان أرتاده، فتأكدت أنني قد أضعتها في مكان ما ولم أتفطّن. بدأت أعيد في ذهني ترتيب الأحداث التي عشتها منذ الأسبوع الماضي، لقد أخذت معي هذا الكتاب إلى أحد المجمّعات التجارية الكبرى هنا في الدوحة،
وقرأت منه فصلاً في المقهى قبل أن أذهب لاقتناء بعض حاجات البيت، فثبت لديّ إذن أنّه لا يوجد إلا احتمال واحد قويّ: لقد نسيت أن آخذ الكتاب من عربة المشتريات بعد أن أفرغتها في السيارة، ومن الغد عدت إلى المُجمّع التّجاري وأعطيت مواصفات الكتاب لأحد أعوان الحراسة فتخاطب مع جهة ما هاتفياً، ثم طلب مني الذهاب إلى الإدارة لأتسلّمه، فلم يستغرق الأمر إلا دقائق حتى عدت ومعي حاجتي.
عندما فكّرت في الذّهاب إلى المجمّع التجاري لاسترجاع الكتاب المفقود كان ذلك اختباراً لذاكرتي أولاً، فقد كنت على يقين من أنني سأجده شرط أن تكون فرضيتي صحيحة، وأنني قد نسيته فعلاً في العربة، فما سيحصل لاحقاً معروف، سيأتي أحد هؤلاء العمال الآسيويين الذين يعملون في مأوى السيارات ليعيد العربات الفارغة إلى مكانها في مدخل المجمّع كما يفعلون دائماً بعدما تتبعثر العربات الفارغة هنا وهناك، وعندما ينتبه إلى الكتاب، لن يكون بوسعه إلا أن يحمله إلى الإدارة كي تضعه على ذمّة من سيأتي ليسأل عنه، لا يتعلّق الأمر بالكتاب؛ لأن قيمته المادية ضئيلة ولا تغري أحداً بالاستحواذ عليه لخاصّة نفسه، فالأمر ذاته سيحدث لو كانت الحاجة المفقودة هاتفاً أو حاسوباً أو بضاعة أخرى ثمينة.
هؤلاء العمّال الذين ترتسم على وجوههم معالم البؤس لا يجرؤ أحدهم على فعل أي شيء خارج عن القانون هنا حيث يعملون، إنهم يأتون من أماكن مختلفة من العالم، ليعملوا في دول الخليج العربي من أجل تغيير حياتهم، والمبالغ الزهيدة التي يحصلون عليها ذات قيمة لا يستهان بها في بلدانهم الأصلية، وأي مخالفة يرتكبها أحدهم ستجعله بمقتضى قوانين الكفالة عرضة للترحيل شأنه شأن كل المقيمين على تباين درجاتهم واختلاف وظائفهم. صرامة القوانين وحدها تجعل أكثر من سبعين جنسية تتعايش تحت سماء واحدة على اختلاف أعراقها وأجناسها ودياناتها،
بينما تشتعل حروب في مناطق أخرى من العالم بين أبناء الجنسية الواحدة لاختلاف في الأيديولوجيا فقط أحياناً، لكنّ صرامة القوانين لا تقاس بعدد رجال الأمن في الأماكن العامة، فذلك يشعرك بأنك تتحرّك داخل زنزانة كبيرة ويجعل من الانضباط سلوكا ظرفيا لا غير، إنما تضطلع كاميرات المراقبة الموجودة في كلّ مكان بخلق إحساس عام بأنّ كل شيء تحت السيطرة، وأنّ كلّ ما يقوم به الإنسان في الفضاءات العامة مكشوف، فهل يمثّل ذلك تعدّياً على الخصوصية وانتهاكاً للحرّية الشخصية رغم أنه ضروري لصنع مجتمع آمن تنعدم فيه الجريمة أو تكاد؟
إن فرضية استرجاعي الكتاب لو فقدته في أحد المُجمّعات التّجارية في تونس تظلّ قائمة لكن بنسبة ضعيفة جدّاً، فكثير من المشاكل التي باتت تؤرق المواطنين في السنوات الأخيرة تتّصل بانعدام الأمن والأمان وارتفاع منسوب العنف والجريمة، رغم كلّ منجزات الثّورة السياسية لا سيّما في باب التشريعات الخاصّة بحقوق الإنسان ما يزال المجتمع في حاجة إلى نظام مراقبة أمنية شامل ودائم يضمن الانضباط لقواعد العيش المشترك ويوفّر الأمان، لا يعني ذلك العودة إلى المربّع الأول؛ حيث تتمّ مقايضة الحرّيات بالأمن،
فما يحصل في الأنظمة الاستبدادية عادة هو الانحراف بهذه الأجهزة سواء أكانت بشرية أم الكترونية عن وظيفتها الأمنية الوقائية واستغلالها في تعقّب الرأي المخالف والتصدي له بوليسياً، لكنّ ذلك لا يعني إلغاءها كلّياً في سبيل مقاومة الاستبداد، وهو الخطأ الذي قد تكون تونس وقعت فيه خلال السّنوات الأولى التي أعقبت سقوط نظام بن علي.
إنّ إمكانية ضياع الكتاب في أحد المجمعات التجارية في تونس يبقى أمراً نادر الحدوث، إذ لا أحد يفكر في سرقة كتاب، وهناك يتعيّن عليك أن تعيد بنفسك العربة إلى مكانها بعد إفراغ محتوياتها في السيّارة، فأنت لا تحصل عليها إلا بمقابل مالي، ولو حصل أن حدث هذا الأمر فليس بوسعي أن أتخيّل حقاً ما إذا كان العثور عليه ممكناً وبنفس السّهولة التي تجري بها الأمور في مناخ اجتماعي وسياسي مختلف كالذي يوجد في الخليج، لكن السّؤال عن الخصوصيّة في مقابل الأمن يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة ليكون سؤالاً كونياً وحيرة أصيلة، أيّهما أفضل أن تعيش آمناً تحت سماء مزروعة بالكاميرات، مطمئناً إلى أن عيْناً ما ترعاك فيما هي تحصي أنفاسك، أم أن تعيش حرّاً متمرّداِ على كل أشكال التّعقب والمراقبة دون ضمانات حقيقية تكفل لك أمنك؟ وأي معنى للحرية الشخصية والخصوصية ولم يعد ممكناً الاستغناء عن التكنولوجيا التي اخترقت كل الخصوصيات، تلك هي المسألة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.