“دانكِرْك”.. إنه زمن الشعوب

لكن، كيف يمكن إجلاء هذا العدد الهائل من الجنود فيما طيران النازيين يسرح ويمرح فوق رؤوسهم؛ بل ويدمِّر معظم البوارج العسكرية التي حاولت نقلهم باتجاه الضفة البريطانية للقنال الإنكليزي، في مشاهد تصويرية مخيفة تجعل المشاهد شديد الالتصاق بكرسيه كاتماً لنَفَسِه من هول الموقف؟!

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/03 الساعة 09:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/03 الساعة 09:38 بتوقيت غرينتش

"دانكِرْك"، فيلم سيكون من رأس قائمة الأفلام المرشحة لنيل أكثر من جائزة من جوائز الأوسكار القادمة. وبرأيي، سيفوز بجائزة أفضل فيلم وأفضل إخراج، وربما أفضل موسيقى تصويرية في تلك المسابقة.

بدايةً، الفيلم لن تفهمه من أول مشاهدة؛ فهو عبارة عن تجربة ستخوضها بمشاعرك ساعتين، لن يُتاح لعقلك خلالها أن يفكر. فعِش التجربة ودع التفكير والفهم للمرة الثانية التي تشاهد بها الفيلم.

فيلم يختلف عما سبقه من أفلام الحروب والمعارك "الغربية" من عدة نواحٍ؛ فالفيلم قصة حقيقية لعملية حصار النازيين لـ400 ألف جندي بريطاني وفرنسي من الحلفاء في مدينة دانكرك شمال فرنسا، بين تاريخ 26 مايو/أيار و4 يونيو/حزيران من عام 1940.

هذا الحصار، الذي لو نجح في إبادة هؤلاء الجنود لأصبح الطريق ممهَّداً أمام الجيش الألماني لاحتلال بريطانيا، وربما بعد ذلك العالم، حسب التقارير العسكرية آنذاك.

لذلك، كان إنقاذ هؤلاء وإجلاؤهم بمثابة الحجر الأساس في المحافظة على خطوط الدفاع البريطانية؛ ومن ثم الانتقال إلى مرحلة امتصاص الصدمة فالهجوم المضاد وهزيمة النازية.

لكن، كيف يمكن إجلاء هذا العدد الهائل من الجنود فيما طيران النازيين يسرح ويمرح فوق رؤوسهم؛ بل ويدمِّر معظم البوارج العسكرية التي حاولت نقلهم باتجاه الضفة البريطانية للقنال الإنكليزي، في مشاهد تصويرية مخيفة تجعل المشاهد شديد الالتصاق بكرسيه كاتماً لنَفَسِه من هول الموقف؟!

تلك قصة الفيلم باختصار، وهي عملية إجلاء جنود الحلفاء من مدينة دانكرك على الضفة الفرنسية إلى الضفة البريطانية للقنال الإنكليزية.

ليس في القصة بطل عسكري بعينه؛ بل وكأن المخرج أراد تغييب أي دور بطولي للعسكر، لأمر لن يَكشِف عنه إلا في آخر الفيلم، في منظر مهيب يأخذ بالألباب.

تغييب بطولات العسكر جاء بعدة طرق؛ منها طغيان الموسيقى التصويرية الرهيبة التي لحنها الملحن السينمائي العالمي هانز زيمر على الحوار بين العسكر، جنداً وضباطاً وقادة، حتى إن الفيلم يصلح أن يُختزَل كل الحوار العسكري منه دون أن يُخل ذلك بمضمونه.

وفي المقابل، أظهر المخرج حوار السيد دوسون مع طاقمه على قاربه المدني وهو يُبحر من الضفة الإنكليزية إلى الفرنسية، دون أن يطغى صوت المعارك على هذا الحوار، وخاصة في الرمزية الهائلة التي ظهرت في حوار شباب طاقم السيد دوسون المدني مع الضابط الذي أنقذوه، ثم ما لبث أن حاول الانقلاب على القيادة المدنية للقارب؛ فاعتدى على جورج، أحد هؤلاء الشبان اليافعين؛ الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى وفاته متأثراً بإصابته.

كل ذلك أظهره المخرج العالمي كريستوفر نولان في 3 متوازيات زمنية متسارعة من الأبطأ وهم الجند المشاة، إلى الأسرع وهو الطيران الحربي، مروراً بالبحرية المدنية التي اعتبرها المخرج هي البيت الإنكليزي الحقيقي، حين أفصح كبير القادة عن ذلك وقتما شاهدَ المئات من تلك القوارب التي وصلت من الضفة البريطانية في مشهد مهيب وقد اقتربت من ساحل دانكرك، لتجلي الجنود؛ إذ يسأله نائبه وقد لاحظ انفراج أساريره بعد طول شدة: ماذا ترى؟ فأجابه: أرى الوطن! I see home

700 قارب مدني ببحارتها وطواقمها ينقذون 330.000 عسكري وضابط من موت محقق، فيحمون بذلك، الوطنَ والإنسانَ.

تلك رسالة الفيلم التي يجب على كل الأحرار العرب الذين ثاروا ضد الاستبداد في أوطانهم أن يحفظوها، حتى إذا سألهم أي كان: ما هو البديل للحاكم؟

البديل هو القوى المدنية المنظمة، في نهاية المطاف هي التي تمثل السياج الحقيقي الحامي للوطن وجيشه.

فأيُّ جيش مهما عظمت قوته، يستند في حقيقة الأمر إلى الشعب المدني الذي يمثل العمق الحقيقي له. هذا الشعب هو وحده الذي يستطيع حماية الوطن، وهو الذي يمد الجيش بالجنود والأموال والعتاد والتموين، وهو ما أظهره نولان في ختام الفيلم؛ حين تراكض الناس يرمون الطعام والشراب للجنود العائدين.

أما ما حدث في العالم العربي وفي دول الربيع منه خاصة، فهو أن الجيوش اعْتَدَتْ على الشعوب تحت ألف حجة وحجة، فقتلت وحرقت وسجنت ورمت الناس بالصواريخ والكيماوي وهجَّرت وسرقت؛ فأفقرت.

لم تدرِ تلك الجيوش وهي تفعل ذلك، أنها قضت على نفسها من حيث أرادت القضاء على الشعوب.

هذه قصة "دانكرك". شاهِدوها أكثر من مرة واحفظوا رسالتها؛ بل اطبعوها في عقولكم.

نحن أصحاب الأرض، نحن أصحاب الشرعية، نَمُنُّ بها على من يستحقها ونخلعها عمن يخونها.

لنتوقف عن مخاطبة البطل خالد وعمر وصلاح الدين والمعتصم بـ"وا معتصماه"؛ فزمن البطل قد ولى.
إنه زمن الشعوب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد