كل 15 ثانية تخرج غسالة، أو تلفزيون أو مكيف هواء من خطوط الإنتاج الحديثة في سطيف، التي تقع على بعد 270 كيلومتراً شرقي الجزائر العاصمة. ويخصص نحو 90% منها للتصدير. توفر الجزائر العمالة الرخيصة، والقرب من أوروبا، وتتمتع بالهدوء منذ 10 سنوات.
تقرير لصحيفة الإيكونوميست البريطانية يتناول التحديات التي تواجه جهود الجزائر في تنويع اقتصادها، في ظل تراجع إيرادات النفط، وتحفُّظ جزء من النخبة الحاكمة في الوقت ذاته على الانفتاح على العالم.
يقول مدير شركة "سيفيتال" الجزائرية، التي استحوذت مؤخراً على "برادت" وهي شركة فرنسية لصناعة الأجهزة المنزلية، إن تكاليف الإنتاج هي سُبع تكاليف الإنتاج في فرنسا. ومن المقرر افتتاح مصنعٍ جديد مساحته 100 هكتار في الجانب الآخر من البلدة مطلع العام المقبل.
مدينة مضطربة
تاريخياً، كانت مدينة سطيف مدينة مضطربة؛ إذ تسببت مذبحة المتظاهرين هناك في إشعال حرب العصابات التي دفعت المستعمرين الفرنسيين للجلاء في عام 1962. وفي التسعينات من القرن الماضي، شنَّ الجهاديون ثورةً استمرت عشر سنوات، ولجأوا إلى الجبال القريبة من المدينة.
وفي الشهر الماضي، يونيو/حزيران 2017، أطلقت قوات الأمن الرصاص المطاطي على ضباط الجيش المتقاعدين الذين يطالبون بزيادة المعاشات.
تعلق الإيكونوميست "لذا يجب على الحكومة أن ترحب بالاستثمار وفرص العمل الجديدة. لكن أصحاب المشاريع المحليين يشكون من أن المسؤولين يعوقونهم. فالتراخيص التي كان استخراجها يستغرق فيما مضى شهراً واحداً تمتد الآن لمدة ثلاثة أشهر. فقد منعت الحكومة تسليم المعدات لخط سيفيتال الجديد لإنتاج العلف الحيواني، الذي يقع بجانب مصنعها الضخم الذي ينتج زيت الطعام على الساحل في بجاية.
الاحتكار الحكومي
لا يزال الوزراء يدعون إلى التنويع (بعيداً عن النفط) والاستثمار الخاص، ولكن العديد من الشخصيات الهامة تبدو قلقة من تقويض إمبراطورية الأعمال الحكومية.
وقال جمال ولد عباس، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني التي تحكم الجزائر منذ الاستقلال، والذي يبلغ من العمر 83 عاماً "يجب ألا تمنح الترخيص للمحتكرين".
لا يزال الاحتكار، من وجهة نظر السيد عباس، من صلاحيات الدولة. وقد قاومت رؤيته للعالم التطور منذ النضال المناهض للاستعمار الذي ساعد في دفعه في الستينات من القرن الماضي "نحن الدولة الإسلامية والعربية الوحيدة التي ظلَّت مخلصة لمُثلها الاجتماعية والسياسية في التضامن مع الفقراء والمهمشين"، كما يقول.
في اعتقاده، تتمتع بلاده بالكثير من المزايا التي تستحق الشكر. فالجزائر أفضل من أي بلد إفريقي آخر على مؤشر "التنمية البشرية" للأمم المتحدة.
الفقراء يعيشون في مساكن مجانية، وإن كانت بائسة. وقد أنهت محطات التحلية مشكلة نقص المياه. ويسير مترو الأنفاق الحديث عبر العاصمة. وتنتشر الطرق السريعة المعفاة من الرسوم في أنحاء البلاد.
وكانت الجزائر أول دولة عربية تتعرض لانتفاضة الجهاديين وهي الأولى التي قضت عليهم. وقتل نحو 200 ألف شخص في "العشرية السوداء" في التسعينيات من القرن الماضي، إلا أنها اليوم إحدى أكثر الدول هدوءاً في العالم العربي. فقد نُفذ آخر هجوم كبير في العاصمة منذ عشر سنوات تقريباً. ولم تندلع فيها ثورات الربيع العربي في عام 2011.
الحراقة
يقول الشباب الذين سينضمون للحراقة -وهو مصطلح محلي للمهاجرين الذين يستخدمون زوارق غير شرعية في البحر المتوسط- إن الإرهاب في لندن وباريس عائق لهم.
الجزائر في المرتبة التاسعة بين البلدان المصدرة للهجرة غير الشرعية، عبر الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، حسبما نقل موقع فرانس 24 عن المنظمة غير الحكومية "الجيريا ووتش".
تُطلق تسمية "الحراقة" باللغة العربية على هؤلاء المهاجرين، الذين يعبرون الحدود، دون أي اعتبار لوجودها؛ بمعنى أنهم "يحرقون" هذه الحدود، طلباً لمستقبل أفضل ودون الحصول على أية تأشيرةٍ للسفر. آلاف الجزائريين يغادرون خلسةً بلادهم كل عام، على متن قوارب صغيرة، يعبرون بواسطتها البحر الأبيض المتوسط، باتجاه إيطاليا أو إسبانيا، معرضين حياتهم للخطر الداهم في أغلب الأحيان.
جريدة الوطن الجزائرية تورد أن هذه الظاهرة التي بدأت مع بداية القرن الحالي، أخذت بالتمدد في الأشهر الأخيرة، وهي تثير الكثيرَ من الأسئلة لدى السلطات المعنية.
من ناحية أُخرى تقدِّر الرابطة الجزائية لحقوق الانسان، أن اتجاه هذه الهجرة ليس في طريقه للانعكاس، وأن هذه الهجرة نفسها لن يتضاءل حجمها في القريب، بل هي تتمدد، انطلاقاً من شواطئ العاصمة الجزائر، نفسها، وهي التي كانت حتى وقت قريب، بعيدة عن هذا النوع من الظواهر.
ووفقاً لفرانس 24 فإنه لا يمكن الاعتداد بالإحصاءات الرسمية، التي تحسب وتذكر فقط، من جرى توقيفهم من "الحرّاقة"، دون احتساب أولئك الذين قضوا غرقاً في عرض البحر أثناء محاولة السفر، وهذا لا يساعد على تقييم ورسم الواقع على حقيقته في هذا المجال.
تقول أرقام الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، إن 1200 من "الحراقة" منعوا من المغادرة في العام 2016، من قبل حرس الشواطئ الجزائري. أما 2017، فلا يبدو أفضل حالاً من سابقه، مع توقيف 85 شخصاً من "الحرّاقة" في ليلة واحدة، في الثالث من شهر يناير/كانون الثاني، في مدينة وهران وحدها. 10 آلاف "حراقة" أنقذوا في أعالي البحار من قبل البحرية الجزائرية منذ العام 2005.
هذه المأساة المستمرة منذ عدة أعوام، تعود أسبابها إلى فقدان الأمل والأزمة الاقتصادية، وكذلك المعاناة اليومية، والتطلع إلى غدٍ أفضل. كما يشرح السيد عبد المؤمن خليل، الأمين العام للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، رداً على سؤال لفرانس 24.
"نماذج عديدة من الناس، تطالها ظاهرة الهجرة هذه، ولا تقتصر على الفقراء أو العاطلين عن العمل فقط، بل إن أغلبية المتحمّسين للسفر، هم من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً، وكذلك نجد بين هؤلاء "الحرّاقة" نساءً، وقصّراً، ومسنّين، وكذلك مثقفين من حملة الشهادات". كما يقول السيد عبد المؤمن خليل.
من ينجو من الموت خلال الرحلة، من هؤلاء "الحرّاقة" يتعرضُ لنفس المشاكل التي يعاني منها المهاجرون اللاشرعيون في أوروبا والقادمون من المغرب، وتونس، وليبيا. في عام 2014 أوقِف نحو 13 ألفاً من المهاجرين عند وصولهم إلى الحدود الأوروبية.
أما من توقفُه البحريةُ الجزائرية قبل عبوره البحر المتوسط، فيلاحق قضائياً، ويعاقب بدفع غرامة مالية بتهمة الهجرة غير الشرعية، وقد يتعرض للسجن أيضاً.
28 % نسبة التصويت
ولكن الآباء المؤسسين للبلاد من كبار السن يبدون بمنأى عن الأحداث أكثر من أي وقت مضى. في الانتخابات التي جرت، في مايو/أيار 2017، تبين أن 28% فقط (وفقاً لأرقام الحكومة المبالغ فيها) قد قاموا بالتصويت. وقد أفسد ربعهم بطاقات الاقتراع.
ويبلغ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من العمر 80 عاماً، وهو حبيس كرسي متحرك.
وفي أيار/مايو 2017، احتاج إلى المساعدة لكي يقوم بالتصويت، ولم يُلق خطاباً علنياً منذ سنوات، لذلك يسميه النقاد "الميت الحي".
ما زالت عائدات البترول بالدولار، بالإضافة إلى الخوف من الحملات الأمنية تفرض حالة من الهدوء. إلا أن الرفاهية والروتين والمخدرات استنزفت حيوية الأمة. فالسلع التي أنتجتها الجزائر بوفرة في الماضي، مثل القمح، يجري استيرادها في الوقت الراهن. ويحصل الخبز والبنزين والحليب على دعم الدولة. كما يحصل الطلاب على الغذاء والنقل بالإضافة إلى التعليم مجاناً.
إلا أن الحكومة لم تعد قادرة على الحفاظ على توازن النفقات والمصروفات. فمنذ انهيار أسعار النفط عام 2014، فقدت الجزائر 90% من رصيد عائدات النفط. وأنفقت تقريباً نصف الاحتياطي الأجنبي، ويمكن أن ينفد الباقي في غضون عامين.
خلال العام الماضي 2016، تخطَّى عجز الميزانية حاجز 17% من الناتج المحلي الإجمالي GDP. ونظراً لاعتمادها على النفط والغاز على مدار عقود، تمثل رد الفعل التلقائي للحكومة في زيادة الإنتاج.
ويبدو أن الحكومة عاجزة عن هيكلة الدولة من جديد. في ثمانينات القرن الماضي، اندلعت احتجاجات بسبب الخبز عندما حاولت الحكومة خفض الدعم، ما أدى إلى تفوق الإسلاميين في صناديق الاقتراع. وكشف عبد المجيد تبون، أحدث رؤساء الوزراء في الجزائر عن خطة اقتصادية أخرى، في العشرين من يونيو/حزيران 2016، متحدثاً عن الحاجة إلى ترشيد الدعم، ثم خصص 3 مليارات دولار لتنفيذ خطة إسكان اجتماعي والعمل على مشروع الرئيس المفضل، وهو بناء ثالث أكبر مسجد في العالم.
بورصة تفتح يومين
تعثرت عمليات الخصخصة. وظلت عمليات تقييم ثماني تكتلات حكومية بدأت في طرح أسهمها عام 2014 مُعلَّقةً. بينما تفتح البورصة أبوابها ساعتين في اليوم، ومرتين في الأسبوع. وسعياً لتحقيق العزلة التامة، يعمل أصحاب الثمانين عاماً الموجودون في سُدة الحكم منذ الاستقلال على إحباط الأجانب والمضاربين لتخوفهم من احتمال تحكمهم في مصير الجزائر.
كما قاموا بتسديد الدين الخارجي للدولة، وأغلقوا حدودها البرية وأصدروا قانوناً يحدد الاستثمار الأجنبي بنسبة 49%. ويمكن لمجهوداتهم أن تأتي بنتائج عكسية. فكما يرى عبد الرحمن بن خلفة، وزير المالية وأحد مشجعي القطاع الخاص، الذي جرى استبداله في مطلع هذا العام 2017، عندما ينفد الاحتياطي، "لن يكون أمامنا سوى صندوق النقد الدولي IMF، وسيقوم الصندوق بإملاء شروطه".
وعلى الصعيد السياسي، يبدو أن النظام عازف عن التغيير، حسب الإيكونوميست، فالحاشية المحيطة بسعيد، شقيق الرئيس بوتفليقة صاحب النفوذ القوي، تناقش إمكانية الاستمرار لفترة رئاسية خامسة بالفعل، بعد انتهاء الفترة الرابعة في 2019، وذلك بإبقاء المنافسين بعيداً وإجراء تعديلات وزارية باستمرار. تبقى الحكومات في المتوسط لفترة أكثر من عام بقليل.
وعلى الرغم من مرور فترة طويلة على تغلب الإنترنت على احتكار الدولة لوسائل الإعلام، فليس هناك موجات التضمين الترددي إف إم FM، ناهيك عن المحطات الإذاعية الخاصة.
هل تكون السياحة هي الحل؟
ربما تسهم السياحة في انفتاح الجزائر قليلاً، إذ يمكن لسواحلها الممتدة أن تجتذب عدداً أكبر من العدد الحالي للسياح، ولكن حتى في الفنادق الفخمة التابعة للدولة، يسخر العاملون بالتأكيد كما لو كانوا يتساءلون عن السبب في سعي الجزائر إلى التحرر إن كان الأمر سينتهي بهم إلى خدمة الأجانب مجدداً.
وتجعل القيود المفروضة على التأشيرة الجزائر من الأماكن التي يصعب زيارتها. وبجوار بلدة تيبازة الرومانية الساحلية يقع منتجع Club Med المهجور، الذي يشبه الأطلال تقريباً، حيث ابيضَّ لون قوارب التبديل البلاستيكية المُلقاة على الشاطئ بسبب أشعة الشمس. عهدت وزارة السياحة مؤخراً بإعادة تطوير الموقع إلى مسؤولةٍ إعلامية شابة، إلا أن الوزارة لم تمنحها الميزانية.