يلعب الإعلام دوراً كبيراً في رسم صورة ذهنية مثالية عما يسميه زوراً "بالحب"، فكل ما يحتاجه في هذه العملية زمن طويل وفكرة، وتكرار لهذه الفكرة حتى تنطبع في ذاكرة المجتمع، وتأخذ مكانها في السائد المنتشر، وهذا من شأنه أن يجعل حكم الناس على الأشياء، وتناولهم لبعض المفاهيم، يبدو بعيداً عن الحقيقة مما يدخلهم في حالة إحباط على أرض الواقع، فما يجري وراء كاميرا الدراما يبقى حبيس رقعة التصوير واقعاً، لكنه وهم حقيقي سرعان ما يتغلغل في مخيلة الناس ويتم التفاعل معه.
منذ نعومة أظافري وأبي -رحمه الله- لا يكل عن النأي بنا عن هذا النوع من الأذى البصري، وليس ذلك إلا محاولة ربما لتقنين المدخلات المفتوحة كالسيل، فمن ظن للحظة أن بإمكانه تفادي هذه الموجة تماماً، فهو واهم بعض الشيء!
لقد تركت لي عائلتي مساحة لا بأس بها أبصر منها وأراقب من بعيد تجلي الحب في واقع صغير قريب للنفس لم يخلُ من المشاكل، لكنه أيضاً لم يعدم الحلول في أغلب المواقف.
أبصرتُ الحب عندما دخلت أمي غرفتنا ذات يوم قائلة: لا أريد تذمراً من إحداكن، فأبوكن يريد شراء مجموعة من الكتب، ولن ينفق راتبه في البيت هذا الشهر. وبالفعل كانت أمي تطبخ مما يتواجد في البيت من مؤونة دون أن تُشعِر أبي بأن هناك تقصيراً في مصروف البيت، وكأنها هي المسؤولة عن الكتب وليس هو، أمي التي لم تكمل الثانوية العامة كانت حريصة على أن يقتني زوجُها مجموعة الكتب بأي ثمن، مدركة أهمية التعاون بيننا كأسرة لكن على طريقتها الخاصة، وذلك ليس لحبها للكتب، بل على العكس لم يكن لديها اهتمامات أدبية أبداً، لكنه الحب الذي يسقى بالاهتمام والرحمة ويثمر تضحية ومشاركة.
أبصرتُ الحب عندما علا صوت أبي مرة غاضباً في جلسة عائلية كعادة أي بيت لا يخلو من القلاقل، فما كان من أمي إلا أن التزمت الصمت، وأخفت في قلبها حزناً لم يكن يعلم قدره إلا أبي رحمه الله.
في اليوم التالي ينادينا أبي جميعاً ويجلس بيننا ووجهه يحمل من الخجل الشيء الكثير، والجميع يترقب أولى كلماته بحرقة، بعد دقيقتين من الصمت يعتذر أبي اعتذاراً جعله يبكي كالطفل بين يدي أمي وهي تقبّل رأسه باستحياء وكأنها المذنبة حقاً!
أحسستُ بثقل الموقف فطلبتُ من إخوتي المغادرة، لكن أبي رفض ذلك معللاً رفضه بأنه قد أحزن أمي بحضورنا، ويجب عليه أن يُصلح موقفه أمامنا، ويردّ لها اعتبارها أمام الجميع.
أبصرتُ الحب عندما اعتُقِلَ أبي وترك حملاً ثقيلاً من المسؤولية وراءه، وبالمقابل كانت أمي تتصرف وكأنه حاضر بيننا، واستطاعت أن تثبت له أنها راعية للأمانة بحق.
سنوات توالت وأمي لم تغير جملتها التي كانت توبخنا بها عندما نسيء التصرف (بيرضى أبوكِ بها التصرف!) فلم يغِب عنا حزم الأب في التربية والتقويم حتى وهو خلف قضبان السجن.
وصلَنا ذات يوم خبر مفاده أن مجموعة من السجناء السياسيين سيتم نقلهم إلى المحكمة للمحاكمة، وكان أبي من ضمنهم، أذكر حينها أن أمي لم تستطِع النوم من الفرح وهي مستعدة للسفر تحت أي ظرف كي تلمح أبي بضع ثوانٍ فقط.
وصلت أمي إلى مبنى المحكمة ورابطت ليلة كاملة على الرصيف حتى حظيت بنظرة مشتاق بعد سنوات من الغياب، رابطت ليلة في الطريق من أجل بضع ثوانٍ وقد كانت سعيدة جداً بما تفعله، فما تفسير ذلك إن لم يكن الحب؟
أبصرتُ الحب عندما بدأ أبي يشكو من ألم في قلبه جراء جلسات التعذيب قبيل موته، لكنه كان حريصاً بأن لا يُخبر أمي بحقيقة ألمه خوفاً من حزنها أو اغتمامها لحاله.
تقول إحدى الجارات لأمي: لقد قال لي الأستاذ في تلك الفترة: لا تخبروا زوجتي بوضعي على حقيقته، خففوا عنها الحزن قليلاً وتعاملوا مع الأمر بطبيعية أكثر.
أبصرتُ الحب عندما كان أبي يلفظ أنفاسه الأخيرة في حضن أمي، وهي تقرأ له سورة الكرسي حتى إذا ما انتهت، صعدت روحه باطمئنان بين ذراعيها، بينما وقفت عاجزة عن فعل أي شيء سوى البكاء، وبقيت فترة أحاول استيعاب قوة أمي في لحظات عصيبة كتلك.
اليوم أُبصِرُ الحب عندما تسألني أمي على سبيل المزاح ونحن نحتسي قهوة الصباح: ترى هل استبدلني أبوكِ بالحور العين يا هبة؟ والله إني امرأة غَيور وأنتظر اللقاء بفارغ الصبر، فأقول لها ضاحكة: لا أظن أنه فعلها، لكن لا تنسي أن (الرجال ما لهم أمان يا أم أحمد!).
حدثني بعد هذا عن الهراء الذي يعرضه الإعلام ويسميه زوراً بالحب!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.