أثبتت الأبحاث المذكورة في كتاب "سيكولوجية السعادة"، أن تحقيق السعادة يأتي من شخصية المرء وليس بما يملكه. فالإنسان السعيد هو الذي ينظر لمختلف أمور الحياة بإيجابية، وعلى أنها في صالحه مهما كانت، إضافة إلى قدرته على إنشاء علاقات اجتماعية سليمة وقوية مع الآخرين.
والمثير في الأمر هو ذكر الكتاب أن أكثر الناس سعادة هم المتدينون. والسبب في ذلك هو ما يمنحه الدين من سلام داخلي وتفاؤل بالمستقبل. كما عدّ الدين من أهم مصادر السعادة؛ لكونه يبين للإنسان الغاية من وجوده؛ ومن ثم ينقذه من الضلال والحيرة في رحلته بهذه الحياة.
وفي قصص التحوّل إلى ديانة الإسلام، نجد أن الكثير ممن أسلموا لم يكونوا راضين عن حياتهم؛ لعدم معرفتهم إلى أين ستوصّلهم رحلتهم في الحياة، على الرغم من توافر كل وسائل الرفاهية والراحة لهم. ولذلك فإن من يشعر بأن لحياته معنىً وهدفاً يكون أكثر سعادة. والإسلام بيّن بشكل واضح ومباشر أن غاية خلق الإنسان هو لعبادة الله، بقوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)" (سورة الذاريات).
ومن أسباب السعادة التي تأتي من الدين، الاستشعار بوجود قوة عظمى يلجأ إليها المرء في الكرب والمحن. وهذا ما بيّنه قوله -تعالى- في وصف من كانوا على وشك الغرق، بقوله: "قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (63) قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)" (سورة الأنعام).
كما يوفّر الدين الدعم المعنوي والنفسي للناس، وخاصة عن العوز والحاجة، وهذا ما ذكره قوله تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (60)" (سورة غافر)، وقوله: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)" (سورة الرعد). إضافة إلى قدرة الدين على تثبيت الناس في مختلف المصائب بدعوتهم إلى الصبر والصلاة، بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)" (سورة البقرة).. وقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلّم- أن سعادته في الصلاة بقوله الشريف: "وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وبالدين، يسلّم المرء أمره لله تعالى، ويؤمن بالقضاء والقدر. فلا يتطيّر ولا يتشاءم، وإنما يظن بالله الخير وأن كل ما يحصل له هو لفائدة قد لا يدركها الآن ولكنها ستتحقق له. وفي كتابه "قوّة التفكير الإيجابي"، أشار نورمان بيل إلى وجود شيء أكثر أهمية من إدراك الحقائق والمحن، وهي موقفنا منها أو الـattitude. فإن تعاملنا معها بإيجابية، فسنتمكّن من تجاوز الصعاب وإيجاد الحلول. والوسيلة في تحقيق ذلك تكمن في حُسن الظنّ بالله.
ويعدّ الرضا عن العمل وسيلة أخرى لتحقيق السعادة، وذلك من ناحيتين: الأجر والإنجاز. ونجد ذلك ما حثّ عليه الإسلام تماما بقول الرسول -صلى الله عليه وسلّم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه"، وقوله: "إن الله يحب المؤمن المحترف". فالعمل يقي من الفراغ ومن مخاطره؛ كالإدمان والانحراف. وبيّنت إحدى دراسات أن العاطلين عن العمل لديهم انخفاض في القوة العقلية والجسمية وارتفاع في نسبة التدهور الصحي. كما أنهم يعانون الاكتئاب والإدمان والجرائم والانتحار بنسبة أكبر. فهناك علاقة مزدوجة بين البطالة والتدهور العقلي.
وعلى الرغم من أن نيل الأجر المناسب من مسببات السعادة، فإنه ليس هناك علاقة بين المال ومستوى السعادة؛ إذ تتأثر السعادة لدى المرء فقط عند مقارنته وضعه المالي مع وضع الآخرين، فالإنسان يشعر بالشقاء عندما يدرك أن هناك من يفوقه في المستوى المادي. ولذلك نجد أن الإسلام حرص على التوزيع العادل للأموال بين الناس؛ لتجنّب هذا الشقاء وما يسببه من حقد طبقي وتبعاته من مختلف الجرائم؛ وذلك بتحريم الربا لمنع تداول الأموال بين فئة واحدة من الناس دون غيرها، وبإيجاب الزكاة والحثّ على الصدقة؛ لينال كل فقير حقه في مال الغني، فتطيب الأنفس وتستكين.
وللعلاقات الاجتماعية أثر كبير على السعادة؛ وذلك لما توفره من دعم اجتماعي ونفسي ومادي للمرء. فالإنسان السعيد هو الذي يملك شبكة من العلاقات الاجتماعية القوية والسليمة مع الآخرين. وكلما زادت العلاقات الاجتماعية، زاد الشعور بالسعادة، لذلك نجد المكتئب انطوائياً، بينما المتفائل والمبتهج أكثر انفتاحاً على العالم والناس.
من هنا، جاء التكافل الاجتماعي الذي أمر به الإسلام؛ إذ أوصى بالمحبة والود والتعاون بين الأفراد ومن مختلف المستويات. فمثلاً، بيّن أن لكل فرد حقوقاً وواجبات في الأسرة والمجتمع ومختلف مؤسساته، قال الرسول -صلى الله عليه وسلّم: "ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مال سيِّده وهو مسؤول عنه، ألا كلّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".
وفي الحثّ على المودة والرحمة التي يجب أن تتخللها العلاقات بين الناس، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً"، وقوله: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
ولا يتحقق ذلك إلا في حال كان المجتمع متعاوناً بين أفراده. قال تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)" (سورة المائدة). كما أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتكافل الاجتماعي لتحقيق المودة من خلال العديد من الأحاديث النبوية الشريفة، مثل: "مَن عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله، ناداه منادٍ بأن طبت وطاب ممشاك، وتبوَّأت مِن الجنَّة منزلاً"، وأيضاً: "يا أيُّها النَّاس أفشوا السَّلام، وأطعموا الطَّعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا باللَّيل والنَّاس نيام، تدخلوا الجنَّة بسلام"، وأخيراً: "تهادوا تحابُّوا".
فالعلاقات السيئة الناتجة من النزاع والخصام تزيد من التسبب بالشقاء، ولذلك أمر الإسلام بالإصلاح بين الإخوة. قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: (لا تقاطَعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً، لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". كما حرّم مجالس الخمر والميسر؛ لما فيهما من فرصة للنزاع والتهديد وحتى الترويع والقتل، بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91)" (سورة المائدة).
وفي حثّ الإسلام على الزواج فوائد جمة على الصحة النفسية والعقلية؛ إذ بيّنت الدراسات أن المتزوجين أكثر سعادةً من غيرهم؛ وذلك لما فيه من مشاركة ودعم بين الطرفين. وهذا ما بيّنه قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)" (سورة الروم).
ومن الأنشطة التي تحقق السعادة الأنشطة الرياضية؛ من سباحة ومشي وتنس وغيرها؛ لكونها تطلق الإندورفين المسبب للسعادة، إضافة إلى تحقيقها نوعاً من الانتعاش أو اليوفوريا، بالشعور بالقوة. ولذلك نجد الحكمة من توصية الرسول الآباء بتعليم أبنائهم الرياضة، بقوله الشريف: "علِّموا أولادَكُم الرِّمايةِ ورَكوبَ الخيلِ والسِّباحةَ".
وفي تأمل الطبيعة يستمد المرء مشاعر إيجابية قوية، وتحقق له السكينة والأمن الداخلي. وهذا ما أمر به الله -تعالى- المسلمين في العديد من الآيات، مثل: " قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)" (سورة العنكبوت)، وقوله تعالى: "وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)" (سورة الجاثية).
وأخيراً، تسبب السعادة التفكير الإيجابي، والذي يؤدي بدوره إلى زيادة الثقة بالنفس وتقدير الذات، كما يصبح الإنسان الإيجابي أكثر تعاوناً ومحبةً مع الآخرين، وقدرة على مواجهة صعاب الحياة وحل المشاكل. فنجد في النهاية أن الإسلام قادر على تنشئة أفراد إيجابيين قادرين على حمل رسالة الخلافة على هذه الأرض، وبما يرضي الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم، فينالون بذلك السعادة في الدنيا والفوز في الدار الآخرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.