تصطف الدبابات والعربات المدرعة الاحتياطية التابعة للقوات العراقية تحت جسر الموصل الخامس، والذي يمر فوق نهر دجلة شمال المدينة القديمة.
استفاق الجنود الذين كانوا يستريحون على ماكيناتهم وعرباتهم على صريخٍ غاضب صادر عن حشدٍ من زملائهم يمر بجوارهم، ويدفعون أمامهم رجلاً لا يرتدي سوى سروالٍ فضفاض ويداه مقيدتان. كان أحد الجنود يمسك به من شعره، بينما كان آخر يركله من الخلف. وفيما احتشد الجنود حوله بتنمر، توسل الرجل طالباً الرحمة.
وفي النهاية، اقتاده الجنود إلى مركز احتجازٍ مؤقت، أنشأته القوات العراقية لفحص الفارين من المدينة القديمة بالموصل.
الصورة السابقة والتي نشرتها صحيفة التلغراف البريطانية أمس السبت 15 يوليو/تموز 2017.. رغم قتامتها إلا أنها تظل ناقصة، فمصير الرجل يظل مجهولاً بينما مصير آخرين من أبناء مدينته المنكوبة قد وثقتها كاميرات قاتليهم أنفسهم، وآخرين.
فمع اقتراب الحرب التي تشنها القوات العراقية وقوات التحالف ضد تنظيم داعش في الموصل من نهايتها، وتمكن تلك القوات من استعادة السيطرة على المدينة الأسبوع الماضي، انتشرت العديد من الفيديوهات والتقارير الإعلامية حول انتهاكات وحشية يرتكبها الجنود العراقيون بحق سكان المدينة، أبرزها القتل خارج إطار القانون.. ولكن الجديد أن هذه القوات لم تعد تحاول إخفاء ذلك، بل تنفذه بكل جرأة في وضح النهار.
بلقيس ويلي، الباحثة العراقية البارزة بمنظمة هيومن رايتس ووتش تقول "العديد من الشهود على الجبهة الأمامية قدموا لي تقارير مفصلة لا تتضمن فقط زيادةً كبيرة في عمليات التعذيب والقتل خارج إطار القانون للمحتجزين المشتبه في انضمامهم لداعش، والذين يُقبَض عليهم أثناء محاولة الهرب من المدينة القديمة، ولكن تتضمن التقارير أيضاً تغيراً في الشكل العام لهذه العمليات، إذ لم تعد القوات العراقية تشعر أنَّها تحتاج لإخفاء هذه الأفعال عن عيون المراقبين الدوليين".
وأضافت أنَّه قد استقر بين القوات "انهيارٌ لفكرة الالتزام بقوانين الحرب".
قتلوهم..
كانت المدينة القديمة بالموصل، حيث ما زالت بعض المناوشات مستمرة، هي معقل المقاومة الأخير لمقاتلي تنظيم الدولة (داعش) وعائلاتهم في العراق. وقال فاضل، وهو ضابطٌ في الفرقة التاسعة المدرعة العراقية: "كل الرجال الموجودين هناك ينتمون لداعش، وكل العائلات هي عائلات داعش".
صحيفة التلغراف البريطانية نشرت عنه حادثةً أخرى الأسبوع الماضي قرب أنقاض مسجد النوري الشهير بالمدينة، لرجل ملتح يبدو عليه الإنهاك، كان يحتجزه جنودٌ يُعتَقَد أنَّهم ينتمون لقوات مكافحة الإرهاب العراقية.
قميص الرجل وسرواله الجينز كانا يتدليان بشكلٍ غريب من جسده النحيل، بينما يداه مقيدتان خلف ظهره بقطعة قماش. وكان يسير محنيّ الرأس بلا اعتراض أمام الجنود، قبل أن يدفعوه إلى متجرٍ في بيتٍ متهدم من أثر القصف على المدينة.
دوى صوت بعض طلقات الرصاص من داخل المتجر، ثم خرج الجنود وعادوا إلى مواقعهم على الخطوط الأمامية. وداخل المبنى، كان الرجل يستلقي ميتاً على كومةٍ من الأنقاض والرصاص قد اخترق جبهته. وكانت يداه لا تزالان مقيدتين.
وفي فيديو آخر تداولته وسائل الإعلام الدولية تظهر مجموعةٌ من الجنود يحتجزون عدداً من الأشخاص بملابس مدنية بالية، ويبدو عليهم آثار الإنهاك الشديد، بينما يضرب الجنود بعضهم وينتقلون من شخص لآخر، قبل أن ينهالوا بالضرب على أحد المحتجزين، ويسحبوه خارج المكان، الكائن فوق جرف مرتفع..
يحمل الجنود الشخص ويحاولون إلقاءه وسط السباب والضرب من فوق الجرف وهو يقاومهم متشبثاً بالحياة، فتفشل محاولتهم الأولى، بينما ينجحون في المرة الثانية في إلقائه ليقع على جثة أخرى في أسفل الجرف يبدو أنها لضحية سابقة، وبعد أن يسقط يطلقون عليه وابلاً من الرصاص كأنهم يتأكدون من موته.
وتعليقاً على هذا الفيديو قال المتحدث باسم الداخلية سعد معن في مؤتمر صحفي بوزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) الخميس الماضي "قد يكون هناك سلوك سيئ (…) من جانب بعض العسكريين، نعم. لكنّ التحقيق جار".
ونفى العقيد سعد، المتحدث الرسمي باسم الفرقة التاسعة المدرعة، هذه الاتهامات ووصفها بـ"الافتراءات"، وقال: "نحن نعامل السجناء طبقاً للقانون".
وليست هذه المرة الأولى التي تُتَّهم فيها القوات العراقية بارتكاب أعمالٍ وحشية في معركتها لاستعادة المدينة.
ففي مايو/أيار الماضي، كشف مراسل صحيفة دير شبيغل الألمانية علي أركادي الذي رافق القوات العراقية ليوثق معركة استعادة الموصل، عن انتهاكات وحشية ترتكبها تلك القوات، بعد أن صدم بواقع مغاير لما كان يتأمله.
فرغم ما تلقته قوات النخبة العراقية من التدريب والتأطير القتالي والقانوني حتى سميت بالفرقة الذهبية، فقد كان أركادي شاهداً على انتهاكاتها طوال شهور المعركة، حيث يؤكد أنها لم تكن ممارسات فردية كما دأبت الحكومة العراقية على وصفها، بل وقعت على نطاق واسع وبعلم القيادة العسكرية والقوات الأميركية.
ويتحدث أركادي -وهو مراسل وصانع أفلام وثائقية- عن تنافس أفراد الشرطة الاتحادية وقوات الطوارئ على الظفر ببيت امرأة جميلة بعدما يتداولون قصص جرائمهم ضد النساء في تلك المنطقة وذلك البيت.
وعندئذ يقرر أركادي إنهاء مهمته والفرار بعائلته من العراق، فلم يعد يتحمل تلك المشاهد ولا تلك الأفكار التي تراوده عن الحالة التي سيكون عليها إذا ما كانت ابنته أو زوجته هما الفريسة التالية، كما يقول في تقريره، مشيراً إلى أن هذه الانتهاكات هي ما سهل -على ما يبدو- سيطرة داعش على المدينة العراقية ذات الغالبية السنية، بحسب موقع الجزيرة الإخباري.