أن تكون صديقاً لشهيد

إن من الأكيدِ أن علمَ الغيبِ عند الله وحده، وليس باستطاعة أي مخلوقٍ أن يعلم ما هو قادمٌ، ولا أن يقسم الناس هذا في الجنة وهذا في النار، ولا أن يمنح من يشاء شرف الشهادة وصفة الشهيد، ولكن نسأل الله تعالى أن يحتسب أولئك الذين رأينا ظاهرهم نقياً شهداء عنده، ولا نزكي على الله أحداً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/14 الساعة 00:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/14 الساعة 00:37 بتوقيت غرينتش

إن من الأكيدِ أن علمَ الغيبِ عند الله وحده، وليس باستطاعة أي مخلوقٍ أن يعلم ما هو قادمٌ، ولا أن يقسم الناس هذا في الجنة وهذا في النار، ولا أن يمنح من يشاء شرف الشهادة وصفة الشهيد، ولكن نسأل الله تعالى أن يحتسب أولئك الذين رأينا ظاهرهم نقياً شهداء عنده، ولا نزكي على الله أحداً.

عندما تسمع خبراً سيئاً فإن أول شيء يقوم به الإنسان هو الإنكار، ينكر ما يسمعه تماماً، ويدخل فيما يشبه الغيبوبة، يغدو وكأنه فاقد للوعي، ثم يبدأ بالعودة للواقع تدريجياً ليستوعب ما يجري، ولخبر الموت رهبته الخاصة ليس كمثل غيره، ربما هي بسبب الفراق الأبدي الذي تفعله تلك الكملة، وتتضاعف الرهبة حينما يكون هذا الخبر من نصيبك، فيمسكُ الموتُ أحدَ أشدِ المقربين إليك، حينها يحضر الأسى ويسيطر الحزن بشدة، يخيم داخلك صمتٌ كبيرٌ قبل أن يخيم على فمك وصوتك، تموت الكلمات وتتكسر الحروف على الشفاه، وينطلق العقل بأسئلته اللامنطقية، وتحضر الذكريات مع ألمٍ عظيم يغزو روحك.

عندما رأيت صورتَه في وسائل التواصل الاجتماعي ابتسمت وتذكرت الأيام التي جمعتني به، لم أكن بعد قد قرأت ما هو مكتوب.

قرأت ذاك الخبر وتملكني بسرعة شعور عارم بالخوف والرهبة، الصدمة جعلت أنفاسي تتسابق والعرق يملأ جبيني.

لم أكن يوماً من الأيام شجاعاً ولا بطلاً مغواراً، ولكن حياة الحرب والاعتياد على الأخبار المفجعة، وأغلبها أخبار للموت، ربما أورثني رباطة جأشٍ جيدة نوعاً ما، أما في تلك اللحظة التي قرأت فيها النعي فقدت ساعتها كل صبري، تجردت من كل ثباتي، إنكارٌ تامٌّ وإحساسٌ بالخروج عن الواقع، بحثت طويلاً عن خبرٍ ينفي ما قد رأيتُ فلم أجد إلا أخباراً تصب الزيت على النار، الكثير من الأخبار تزف عريس تلك الليلة.

أول شيء يخطر في بال من يفجع بموت أحد أحبابه هو الذكريات، حينها فقط يتذكر التفاصيل ويغوص فيها بشدة، يحاول أن يعيش كل تفصيلة منها كأنها تجري الآن، يحسب أن الذكريات قد تهون عليه ما هو فيه من شروخٍ نفسية، لكن ما يلبث إلا أن يكتشف عكس ذلك.

عمق الذكريات وطبيعة الأيام التي جمعتني به جعلتني أسترجع تفاصيل أظنها تحتاج لكثير من السنين لاحتوائها، ولكنها كانت مجموعة في سنة أو تزيد قليلاً، لم أكن لأستذكر تلك التفاصيل لولا موته، أن تكسب صديقاً في الحرب هو الشيء الأنقى في الحياة، في لحظات الحرب تلك يتجرد كل إنسان من التصنع والتظاهر بعكس ما هو عليه حقاً، يتصرف بطبيعته الخالصة؛ لذلك فإن الصديق الذي تكسبه في تلك الظروف هو غالباً سيكون أقرب لأن يكون أخاً لك.

تتدافع الذكريات في رأسي وتتقافز، كل منها أحس بأني أعيشه واقعاً أمامي، وعندما أنتهي أتذكر خبر موته فأفجع، ثم تقفز ذكرى ثانية فأسترجعها بكل تفاصيلها وأعود لأذكر الخبر فأفجع ثانية، وثالثة ورابعة وعاشرة، ذكريات حتى الإنهاك.

لخبر الموت وقعٌ خاصٌّ على القلوب قبل الآذان، يترك في القلب جروحاً أعمق من أن تشفى.

لقد ترجل ذاك الشاب شهيداً، بإذن الله، لا أدري هل أحزن على فراقه أم أفرح لنيله تلك الدرجة التي لا تعطى لكثير من الناس، يصيبني انفصام في المشاعر وجمود كامل للأحاسيس.

فراقه ترك في قلبي مكاناً فارغاً لا يستطيع أحد أن يملأه، صدق مَن قال إننا لا نموت دفعةً واحدةً وإنما نموت بطريقة الأجزاء، فكلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، والآن قد فرغ قلبي من الكثير من أجزائه، رحلوا تباعاً، كل واحد منهم أخذ جزءاً من قلبي ورحل به.

رأيته في صورته الأخيرة ملفوفاً بوشاح أبيض، متكئاً على الأرض كياسمينة دمشقية، لحيته مغبرة وعيناه مغمضتان، ابتسامة وجهه لم تغِب عنه حتى في هذه اللحظات.

حاولت البكاء فلم تُطِعني عيناي، هول المفاجأة الأولى جعلني غير قادر على ذلك.
لجأت إلى صوره القديمة، رأيتها تباعاً وأمعنت النظر فيها، حينها وبشكل لا إرادي فرت أول دمعة من عيني ولحق بها الكثير، الآن حق للعين أن تدمع، وللقلب أن يدمى.

الرحمة والغفران لروحك الطاهرة، وسلام على أرواح من سبقك وأرواح من سيلحق بك.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد