تنام نومها بعمق وتفيق على الرُّغم مما يخيِّم على كتفيها من ألم، تكابد يومها بعنف، وتواجه وجوه الشر -كما يتراءى لها- بصبر، كيف لها هذه المرة أن تتجاهل شحوب عينيها وذبول وجنتيها، وقد كانت تفعل كل مرة واجهت فيها مرآة الواقع، كيف لها ألا تبكي هذه المرة وقد كانت تمتلئ بكاء كلما لاح أمامها طيف رضيعها البكر، عاداتها الصباحية التي ما انفكت تقارعها، لا تزال تسيطر على ذهولها.
هي أمّ مع وقف التنفيذ، لم تحظَ بحقها في لمسه وتقبيله وضمه إليها، حيل بينها وبينه، أمّ ممنوعة من التصرف فقد أجبرت على التخلي عنه، عنها أتحدث في تدوينتي هذه، بعد أن تجاوزتْ سنينها الخمس، قررتْ أن تبوح لي بقوتها، تشاطرني شغفها في تحدي الواقع، حدثتني عن قسوتها وموتها السريري المستمر وعن حربها مع أفكارها وصراع شرودها الطويل.
أول عام لم تقارع غير النوم، كان رفيقها ودليلها في وحدانية نهارها، أفرغت شجنها وفقرها منه فيه، حدثتني عن غفوتها كلما لاح اسمه أمامها، وكلما تخيلته بينها، أشاطرها دون البت بكلمة منّي، حققت حاجتها بمن يستمعها، ولكنها مراراً ما كانت تشكرني.
أفنت عاماً كاملاً في إزالة خيبتها، قضت كل دقيقة بخشوع وهي تنتزع قلبها شيئاً فشيئاً، إلى أن أعلنت بعد حين عزمها استكمال دراستها الجامعية، كنت مدهشاً منها، أذهلني قرارها كما أنها في قرارة نفسها تعلم كم أفخر لو فعلاً فعلتْ.
على شرف انقضاء عامها توجت تاليه باللحاق بالجامعة، أيقنتْ أنها تستحق أكثر مما أخذت، وتستطيع أكثر من ذي قبل أن تقفز خطوة للأمام، حدثتني عن مكابدتها لعادتها الممرضة بالنوم، وكم غلبها وقتما احتاجت اليقظة، حدثتني كذلك عن مشقة ما عانته في الجامعة، وكثيراً من اللهو الممتع الذي جعلها في نهاية الأمر أماً بلا قلب، لقد اختفى اسمه من جدول أعمالها المزدحم.
تخرجت بعد مكابدة سنوات الجامعة الطويلة، وأخذت قسطها الوافر من اللغة العربية، التي أعطتها جل اهتمامها وكثيراً من وقتها بعد أن كان فقيراً إلا من النوم والقهوة التي تقارعها صباح مساء، السمة البارزة والمميِّزة لنور.
سمّيتها أماً مع وقف التنفيذ، ها هي الآن تزاول يومها المزدحم بكل شيء عداه، تقارع ضجيج الجميع إلا ضجيجه، كنتُ كلما ذكرتها به تنهدت قليلاً ثم أقحمت مسوغاتها بيننا، لم أكن لأملك شجاعتها أو هكذا بان لي، وما كنت أريدها أن تغرق ببحر دموعها وقد كنا نتشارك بضع مآسينا في جولة الخمسة أعوام الماضية، أنّى لكِ تلك العاطفة المعدومة بل أين قلبك يا نور؟
أأغلقتِ عليه بمفاتيحك ورميتِ بها في بحر "ميت"؟ أم سكبتِ عليه الزيت حتى لا يشعر مجدداً بشيء؟ أم أنك ضربته كما يضرب حدادٌ على قطعة حديد لتلين بين يديه؟ أخبريني كيف أنت الآن؟ وأي وعاء دموي تملكين غير قلبك؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.