توقف عن التفكير قبل أن يصبح لعنة – لعنة التفكير

نحن هنا لا ننتقد هؤلاء، بل نقدم نصيحة حقيقية لكم؛ كي لا تصلوا لتلك المرحلة المعقدة من التعاطي مع الأشخاص والأفكار والأشياء، وهنا أستذكر ما قاله دوستويفسكي: إنني مصاب بحمى التفكير، أفكر فيما حدث، وما سيحدث، وما قد يحدث، أفكر في الأشياء التي لن تحدث وماذا سيحدث لو حدثت فعلاً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/09 الساعة 03:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/09 الساعة 03:55 بتوقيت غرينتش

يختلف اثنان على أهمية التفكير المرتبط بالمعرفة إن كان ضمن الحدود الطبيعية، فهو من أهم يُميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية، ولكن في مرحلة ما وعند أشخاص معينين يتحول التفكير إلى لعنة تسيطر على صاحبها، أقصد أولئك الساذجين الذين يفكرون بكل شيء ويربطون كل شيء بكل شيء، يعالجون كل ما حولهم من خلال معادلات معرفية خاصة بهم تمتهن تجزئة القضية إلى قطع صغيرة؛ حيث يتم تفحص كل قطعة على حدة بأسلوب يرتبط بالطريقة التي يعالج بها وعيّهم الأمور.

وبعد تفحص القطع الصغيرة يتم جمعها لإعادة تشكيل القضية كاملة، ولكن برؤية مفهومة من وجهة نظرهم، أو قد يعيدون إنتاجها بشكل آخر إن لم يروا أن طبيعتها الأولية كانت منطقية.

يقول هؤلاء: إن آليات الربط بين مجموعات مختلفة من القضايا تحولت إلى عملية لا إرادية بسبب العقل، أو طبيعة التفكير الخاص بهم الذي يتحرك بكل الاتجاهات، ويحاول أن يسيطر جاهداً على كل ما يقع عليه من قضايا؛ كي يروي عطشه بالفهم، من خلال الإلمام بها بطريقة موضوعية وتفحص مكوناتها وربطها أو دمجها أحياناً مع قضايا أخرى، قد يراها الآخرون مختلفة، وهم بذلك يستهلكون أنفسهم بنفس الكمية التي يستهلكون بها الأفكار، غالباً هؤلاء من قصدهم دوستويفسكي حين قال: "إن الإفراط في امتلاك وعي ما هو إلا لعنة حقيقية"، أيضاً إن الأمر ليس مصادفة حين قال مارتن باج، في روايته كيف أصبحت غبياً: "إن كلمة ذكاء هي التي تعبر عن حماقات أُحسن بناؤها وزُين لفظها، إنها كلمة مؤذية جداً بحيث من الأفضل للمرء أن يكون أحمق من أن يكون مثقفاً، الذكاء يجعل المرء تعيساً ومنعزلاً وفقيراً"؛ لذلك إن أحسست يوماً بأنك بدأت تدخل في هذه العملية المعرفية غير الصحية توقف حالاً وحاول التراجع، فالوقاية خير من قنطار علاج، لعدة أسباب منها:

الانفصال عن الحياة المحيطة: لا أقصد به الانطواء والانعزال، بل لأن هؤلاء يرون أن الوسط المحيط مصاب باضطراب في منهجية التفكير والأشخاص من حولهم يتعاملون مع الحياة بدون خطة مسبقة واضحة، وإنما بطريقة اعتباطية تعبر عن قصور جليّ في فهم الواقع، بالتالي تنتشر الفوضى والعشوائية، وهذا ما لا يناسبهم، إنهم يحبذون الاتساق العام الذي يسيطر على نفوسهم بالتالي يعيشون الواقع بيننا، ولكنهم يعيشون عالماً مختلفاً في داخلهم عالماً خالياً من التناقضات الحياتية التي لها أسبابها طبعاً، وهذا ما يزيد من معاناتهم في تقبل الأمور كما هي، فهم يدركون أن العالم الخارجي محكوم بقوانين ونظام معين يرون أخطاءه، ولا يستطيعون تصويب تلك الأخطاء مما يزيد في معاناتهم، لذلك يلجأون للفصل بين الحياة الخارجية والداخلية.

تعدد الشخصيات: هؤلاء قادرون على تقمص أغلب الشخصيات التقليدية ببساطة، وبما يناسب المواقف التي يعايشونها، ليس بسبب النفاق، بل لدعم فكرة الاندماج وعدم الانفصال عن الواقع، وهناك سبب آخر يخلط شخصياتهم المتعددة، وهو المزاج الذي يفرض نفسه أحياناً بطريقة ديكتاتورية تجعل منهم مختلفين لفترات معينة حتى يعود مزاجهم لمرحلة التوازن، وهذا ما يسبب التعب في لحظات الانتقال من حالة مزاجية إلى أخرى تستهلك منهم وقتاً؛ لأنهم ببساطة يدخلون أحياناً في فترات من اللاجدوى، وتزداد قناعتهم بالعبثية المنتشرة حولهم، واستحالة التغيير للأفضل من وجهة نظرهم.

الانفلات من القواعد: الخروج عن المألوف والتمرد، الجرأة بالتعاطي مع مختلف المواضيع الاجتماعية والسياسية والدينية؛ لذلك يدخلون السجن أحياناً، وهنا يقول فولتير: "من الخطير جداً عندما تكون على حق وحكومتك على خطأ"، في بعض الأحيان يتعرضون لعملية النبذ الاجتماعي، بسبب الأفكار المسبقة التي يكونها الناس عنهم، فقد يتهمونهم بالتجرؤ على المقدسات والممنوعات التي هي بنظر أولئك قضايا دسمة تحتاج للكثير من التفكير لفهم طبيعتها؛ لذلك يحاولون قدر الإمكان تهذيب أسلوبهم النقدي، وعدم الانجراف في إظهار شكوكهم تجاه الوسط المحيط بما يحويه من نظام معرفي وسياسي واجتماعي.

التأمل: بارعون في التأمل والتحليل وتفكيك كل ما يدور حولهم، مثلاً نحن الأشخاص العاديين نرى المنضدة الخشبية البنية كما هي منضدة خشبية بنية، أما أولئك يرونها قطعاً خشبية من نوع معين تم تفصيلها بطريقة هندسية مناسبة ثم اتصلت ببعضها من خلال البراغي وغيرها وأصبحت منضدة، ثم إننا نراها بنية؛ لأنها تقوم بامتصاص جزء من الضوء الوارد إليها، أما الجزء المتبقي يتشتت أو ينعكس على السطح الخارجي لها، ثم عندما تستقبل أعيننا هذا الضوء بطول موجي معين سبب لنا الرؤية اللونية البنية للمنضدة.

لذلك يُفسّر اللون الأسود لجسم ما بأنّ سطحه يمتص جميع الضوء الوارد كلياً، وهذا متعلق بطبيعة النظام البصري للإنسان؛ لذلك سترى عين الأفعى المنضدة بلون مختلف؛ لأنها تملك نظاماً بصرياً مختلفاً، حتى الآن تأملهم طبيعي، ولكن وبسبب التحليل المفرط يرون أن المنضدة الخشبية أيضاً مؤلفة من ذرات، ثم وبحسب الفيزياء التي تقول إن أغلب حجم الذرة فراغ، أي أنّ المسافات بين النواة ومكوناتها شاسعة جداً، بالتالي هذه المنضدة هي مجموعة ضخمة من الفراغات.

نحن هنا لا ننتقد هؤلاء، بل نقدم نصيحة حقيقية لكم؛ كي لا تصلوا لتلك المرحلة المعقدة من التعاطي مع الأشخاص والأفكار والأشياء، وهنا أستذكر ما قاله دوستويفسكي: إنني مصاب بحمى التفكير، أفكر فيما حدث، وما سيحدث، وما قد يحدث، أفكر في الأشياء التي لن تحدث وماذا سيحدث لو حدثت فعلاً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد