وصفت صحيفة الغارديان البريطانية قناة "الجزيرة" الفضائية بأنها ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعها، أحدثت ثورةً في الإعلام العربي منذ بدء بثها عام 1996، ووضعت معايير جديدة لنقل الأخبار والتغطية الإعلامية في المنطقة، ورفعت سقف حرية التعبير بشكلٍ جذري، ما أثار غضب الأنظمة الاستبدادية العربية المفتقدة للتفويض الشعبي.
وقالت الصحيفة البريطانية في تقرير لها نُشر الأحد، 2 يوليو/تموز 2017، "غداً الإثنين، 3 يوليو/تموز، ربما تنتهي فجأة تجربةٌ جريئةٌ ومثيرةٌ للجدل في مجال الإعلام والسياسة بالشرق الأوسط، إذ تواجه قناة الجزيرة -التي اعتُبرت منارةً للإعلام العربي الحر الذي كسر هيمنة شبكات الإعلام الغربي وغيَّر اتجاه تدفق المعلومات من الشرق إلى الغرب لأول مرة منذ العصور الوسطى- احتمالية إغلاق أبوابها.
وأشارت الصحيفة إلى أنه، في 23 من يونيو/حزيران 2017، فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر عقوباتٍ اقتصادية ودبلوماسية غير مسبوقة على قطر، وتبع ذلك فرضُ حصارٍ خانق عليها والتهديد باتخاذ مزيدٍ من الإجراءات حال فشل قطر في الوفاء بقائمة مطالبهم الـ13، التي من بينها غلق شبكة قنوات الجزيرة.
الأمم المتحدة
كانت الأمم المتحدة قد انتقدت مطالبة دول عربية لقطر بإغلاق قناة الجزيرة القطرية، ووصفته بأنه "هجوم غير مقبول" على الحق في حرية التعبير والرأي، حسب "بي بي سي".
وقال روبرت كولفيل، المتحدث باسم مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان زيد بن رعد الحسين في مؤتمر صحفي: "سواء كنت تشاهدها أو تحبها أو تتفق مع مواقفها التحريرية أم لا، فإن قنوات الجزيرة العربية والإنكليزية مشروعة، ولها ملايين المشاهدين. المطالبة بإغلاقها فوراً هي من وجهة نظرنا هجوم غير مقبول على الحق في حرية التعبير والرأي".
وقال المسؤول الأممي، إنه إذا كان للدول خلاف بشأن مواد تبثها قنوات تلفزيونية تابعة لبلدان أخرى، فإن "للدول الحق في مناقشتها وخوض مساجلات علناً بشأنها".
واستطرد قائلاً إن الإصرار على إغلاق القنوات التلفزيونية مطلب "شاذ وغير مسبوق وغير منطقي وغير معقول بشكل جليّ".
وتُعلق الغارديان قائلة، بصرف النظرِ عمَّا سيحدث، يُحسب للجزيرة أنها لا تزال تُشكِّل تحدياً وإزعاجاً للقابعين على رأس السُّلطة، بعد مرور 21 عاماً على انطلاقها.
وتضيف: "يمكن لبعض وسائل الإعلام الأخرى الادعاء بأنها مؤثرة للغاية، لكن الجزيرة لا تشبه القنوات الأخرى. إنها ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعها، أحدثت ثورةً في الإعلام العربي منذ بدء بثها عام 1996، واضطلعت بدورٍ رئيسيٍ في عام 2010 عبر إحداث ثورةٍ سياسية حقيقية عبر الكثير من دول العالم العربي".
مِن بن لادن للإسرائيليين
قبل انطلاق بث قناة الجزيرة، كانت نشرات أخبار التلفزيون العربي عبارة عن هُراءٍ استبدادي، إذ ركَّزت الأخبار بشكلٍ رئيسي على ما كان يفعله الشيخ، أو الأمير، أو الرئيس حينذاك، وتحدَّثت بعض الأخبار عن وريث العرش، فضلاً عن مقالات المديح، التي دارت حول حظ الأمة بوجود مثل هؤلاء الآباء الأبطال.
عصفت الجزيرة بكل هذا، وسمحت لكافة الأصوات المحظورة سابقاً بأن تُسمع، بدءاً من الإسرائيليين ومعمر القذافي وصولاً إلى متمردي الشيشان، وحركة طالبان، وأسامة بن لادن.
في أيام مجدها، كانت المدن العربية يسودها الهدوء على نحوٍ ملحوظ عندما يبث على الهواء برنامج الاتجاه المعاكس للدكتور فيصل القاسم، فضلاً عن قائمة قصصها الحصرية، التي تشمل تغطيتها لعملية ثعلب الصحراء في العراق في عام 1998، وحوارها مع بن لادن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وتغطيتها لغزو أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة، عندما كانت الجزيرة شبكة التلفزيون الوحيدة الموجودة في أفغانستان، وباتت لعدة أسابيع وكالةً إخبارية للعالم كله.
كانت الجزيرة أول قناة عربية تقدِّم صحافةً استقصائيةً حقيقية وأول قناة تستضيف ضيوفاً محظورين في برامجها الحوارية، لتتحدث عن موضوعات جدلية مثل التفجيرات الانتحارية ووجود الله. حطَّمَ هذا العديد من المُحرَّمات الدينية والسياسية والاجتماعية ووضع معايير جديدة لنقل الأخبار والتغطية الإعلامية في المنطقة. قدَّمَت الجزيرة مفاهيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ورفعت سقف حرية التعبير عن الرأي بشكلٍ جذري.
تُشكِّل الجزيرة أيضاً مصدرَ إزعاجٍ للعديد من الحكومات في المنطقة، إذ لا يتمتع أي منهم، باستثناء النظام التونسي بعد الثورة، بتفويضٍ ديمقراطي شعبي ويشعرون بالخوف تجاه أي شيء قد يضعف قبضتهم على السلطة.
اندلعت سلسلةٌ من الأزماتِ الدبلوماسية التي لا تنتهي بين قطر وجميع دول المنطقة، باستثناء عُمان بالإضافة إلى العديد من الدول غير العربية. واستخدم الأعداء الكثيرون للشبكة التلفزيونية كل حيلةٍ ممكنة لإغلاقها، بدءاً من إلقاء القبض على المراسلين وإغلاق مكاتبها وترحيل عائلات موظفيها، ومضايقة المُعلِنين المُحتَمَلين، ورفع قضايا عبثية ضد القناة، وفي حالة الولايات المتحدة، عن طريق تفجير مكاتبها مرتين وقتل طاقم العاملين بها.
منافسة الجزيرة
وبعد سنواتٍ من الفشل في إحداث تأثيرٍ، أدركت الحكومات العربية في النهاية، أن الطريقة الوحيدة لمواجهة الجزيرة هو هزيمتها في لعبتها، وهو ما دفع السعودية في 2003 إلى إطلاق قناة العربية المنافسة.
ومن المهم التذكير بأن الجزيرة ليست القضية الخلافية الوحيدة بين قطر وجيرانها. ربما تكون السعودية وقطر الدولتين الوهابيّتين الوحيدتين في العالم، لكن هناك العديد من الاختلافات الأيديولوجية والتاريخية بينهما، وهو ما يتضح في قائمة المطالب الـ13.
ووُضِعَت الجزيرة في قائمة المطالب لأنها رمزٌ قوي لقطر، ولأنها تعبيرٌ واضحٌ لسياسات صنع القرار القطرية. لكنْ هناك سبب آخر ينبغي على الغرب فهمه، وهو أن للجزيرة وجهين أحدهما عربي والآخر إنكليزي، وأن الوجه العربي هو الذي يتسبَّب في كل المشكلات لجيران قطر.
هل فشل الوجه الإنكليزي للجزيرة؟
لقد اعتاد الغرب على الوجه الإنكليزي للجزيرة، وهو قناة الجزيرة الإنكليزية، وموقعها الإلكتروني، والأخبار عالية الجودة، والأفلام الوثائقية المُتطوِّرة، التي تُركِّز على شؤون العالم النامي. وعند مقارنتها بالقنوات الإخبارية العالمية التي تتحدث بالإنكليزية مثل "بي بي سي ورلد"، و"سي إن إن إنترناشونال"، و"فرانس 24" ، و"روسيا اليوم"، يوافق غالبية المراقبين على أن الجزيرة الإنكليزية تحتل مكانةً مرتفعة بين منافسيها.
ويكمن الفشل الأكبر لقناة الجزيرة الإنكليزية في عدم قدرتها على النفاذ إلى السوق الأميركي، لكن حتى قناة "بي بي سي" تواجه تحديات هناك، وربما كان يُمثِّل بشكلٍ أكبر انعكاساً لتعقيدات نسب المشاهدة بين الجمهور الأميركي وليس له علاقة بما تنتجه قناة الجزيرة.
في بريطانيا، حيث توجد العديد من وسائل الإعلام الجيدة نسبياً، تعد قناة الجزيرة الإنكليزية واحدةً من الشبكات الرائدة، التي تشكل بديلاً جديراً بالثقة لقنوات "بي بي سي"، و"سكاي"، و"القناة الرابعة".
لماذا وقفت قطر إلى جانب الإخوان؟
وإلى جانب كونها قناةً إخبارية تُبَث على مدار 24 ساعة، تُعد قناة الجزيرة العربية منصةً مختلفة للغاية فيما يتعلق باللغة، والمحتوى، وإطار مراجعها مقارنةً بنسختها الإنكليزية. وليس هذا أمراً مفاجئاً، لأن القناتين مُوجَّهتان لجمهورين مختلفين تماماً.
إن ما يجعل جيران قطر غير مرتاحين لوجود قناة الجزيرة هو نجاحها في تشكيل وعيٍ سياسي جديد بين العرب، وإثارة موضوعات مثل العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
وما يُشعِرهم أكثر بالبغضاء تجاهها هو وجهة النظر المنتشرة بشكلٍ واسع، التي تتبناها القيادة القطرية، بأن الجماعات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين وحماس سيصلون إلى الحكم عاجلاً أم آجلاً في المنطقة كلها، سواء كان هذا عن طريق ثورةٍ أو انتخاباتٍ ديمقراطية.
ركَّزت الدول المجاورة لقطر على هذه النقطة، عندما قدَّمت قائمةَ مطالبها؛ نظراً لأهمية هذا الملف بالنسبة لإسرائيل والعديد من الدول الغربية، غير أنها لم تأتِ على ذكر حركة حماس في المطالب؛ نظراً للشعبية التي تتمتَّع بها الحركة لدى الجمهور العربي، حسب الغارديان.
الجانب الصحيح من التاريخ
تقول الغارديان: "إذا ما نظرنا إلى الحالات القليلة التي أُقِيمَت خلالها انتخابات حرة ونزيهة في دولٍ عربية سُنية، التي فازت الأحزاب الإسلامية في أغلبها، رغم أنه لا يُسمح لها بالبقاء في السُّلطة لفترةٍ طويلة، فإن افتراض قطر وصول الإسلاميين إلى الحكم يوماً ما يعد أمراً واقعياً. لكن بالنسبة لجيران قطر فإن هذا خرافة.
وتتعرَّض الأنظمة العربية، التي تُحاكم قطر اليوم، وتُعد محوراً للثورة المضادة في المنطقة، لخطر الإطاحة بها من قبل ثورة شعبية، واستبدالها بجماعات إسلامية؛ لذا فإن رؤية هذه الجماعات وهي تُقدَّم كمعارضةٍ سياسية شرعية على قناة الجزيرة، والسماح لها بالدعوة إلى التغيير السياسي يُمثِّل تهديداً واضحاً لوجود هذه الأنظمة.
يُنفق محور الثورة المضادة موارد ضخمة لقمع وشيطنة نفس الأفراد والمجموعات (الإرهابيين)، الذين تمنحهم الجزيرة مساحةً للتعبير. والمشكلة بالنسبة لهم هي أن قطر تبدو على الجانب الصحيح من التاريخ.
لقد طفح الكيل بالعرب من الفساد والحكومات غير المُنتَخَبة التي لا نفع من ورائها، وباتوا مستعدين لأي بديل في المستقبل طالما كان لا يشبه الماضي.
ويعتقد العديد من العرب السنة، ليبراليين وإسلاميين على حد سواء، أن الخطاب الإسلامي الديمقراطي والرؤية المتفائلة للمستقبل التي تقدمها قناة الجزيرة تُشكِّل مصدرَ إلهامٍ أكثر من الرؤى، التي تنشرها حكوماتهم المكروهة والخائفة.
ولم تُظهِر قطر حتى الآن أية مؤشرات تدل على إذعانها لأيٍّ من المطالب المطروحة عليها، رغم أن الموعد النهائي لتلبيتها هو غداً الإثنين.