هل يوقف القمع التظاهرات في المغرب؟.. تعرَّف على تاريخ الحراك الريفي الذي يعود إلى عشرينيات القرن الماضي

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/29 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/29 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش

كانت عطلةُ العيد في مدينة الحسيمة بالمغرب عطلةً من الاشتباكات لا الاحتفالات، فقد أغلقت الشرطة والسلطات الطرقات المؤدية إلى المدينة ومنعت المتظاهرين من التجمهر في الميدان الرئيسي، بينما نجحت الجماهير في التجمع في الشوارع الجانبية، قبل أن تفرقهم قوات فض الشغب، في حين ألقى الشباب الحجارة، وردت الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع.

كانت الحسيمة، وهي مدينة من سفوح إقليم الريف بشمال المغرب، هذه المنطقة الجبلية ذات التاريخ الطويل من التمرد، مركز حركة احتجاجية لثمانية أشهر. وأدت الانتفاضة بالعشرات إلى السجن، ودفعت عشرات الآلاف إلى التظاهر في البلاد وأقلقت المملكة المغربية القابعة في شمال إفريقيا، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.

ووفقاً للصحيفة، فقد أظهرت هذه الانتفاضة أيضاً انقسامات بين المدن الساحلية المغربية المتطورة، والداخل المهمَل الساخط، وبين الشباب المتحمسين لتحدي السلطة والجيل الأكبر الخائف من التغيير، وبين المملكة شديدة القوة، وحركة الشارع والقادة غير التقليديين.

بدأ الأمر كله في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2016 في الحسيمة، البالغ عدد سكانها 56 ألفاً، والواقعة على ساحل البحر المتوسط، عندما ألقت الشركة القبض على بائع سمك يدعى محسن فكري مع شحنة من سمك أبو سيف المحظور. وعندما ألقت الشرطة ومسؤولو الميناء السمك في شاحنة قمامة، قفز فكري المذعور إلى الشاحنة، فطحنته ماكينة الشاحنة حتى الموت.

انتشرت صورة سحق هذا الشاب المغربي، الذي كان يحاول أن يكسب لقمته، كما لو كان كيساً من القمامة، على شبكة الإنترنت بسرعة وأشعلت البلاد.

اندلعت المظاهرات في أنحاء البلاد، ونشأت حركة تدعى "حراك" في الحسيمة، طالب أعضاؤها بالعدالة لبائع السمك المسحوق (أُدِينَ عددٌ من المسؤولين في النهاية بالقتل الخطأ وتزوير مستندات عامة، وحُكِمَ عليهم بفترات قصيرة في السجن).

كما طالبت الحركة أيضاً بإنهاء الفساد والمزيد من الاستثمارات في منطقتهم المهمشة: إنشاء جامعة، ومستشفى لعلاج السرطان، وطرق أفضل.

تظاهرت الحركة سلمياً، ليلة تلو أخرى، في الميدان الرئيسي للحسيمة، وعادة ما كانوا يستمعون لخطبٍ مُطوَّلةٍ ملتهبة لعاطلٍ متسرب من الثانوية العامة يدعى ناصر زفزافي. رفع بعض المتظاهرين أعلاماً بربرية أو أمازيغية، حيث يتحدَّث أغلبية السكان هنا اللهجة البربرية المحلية باعتبارها اللغة الأولى.

لكنَّ الزفزافي أُلقِيَ القبض عليه في أواخر شهر مايو/أيَّار 2017 بتهمة تهديد الأمن القومي، إلى جانب مائة آخرين من قادة الحراك وأعضائه، وصار هناك وجودٌ ضخمٌ للشرطة لإنهاء الاضطراب في المنطقة.

وكان لافتاً أن المحتجين رفعوا علم "جمهورية الريف"، التي تمتعت بالاستقلال لفترة وجيزة في عشرينيات القرن الماضي، بعد مقاومة الاحتلال الإسباني، حسب تقرير لـ"بي بي سي".

وتصف نيويورك تايمز هذه المظاهرات بأنها أكبر مظاهرات شهدتها المغرب منذ عام 2011، عندما اجتاح الربيع العربي البلاد. في ذلك الوقت كان الملك محمد الخامس سريع الاستجابة، فوعد بدستور أكثر ديمقراطية ورفع مرتبات موظفي القطاع العام، وهي إجراءات ساعدت على تهدئة المغاربة. بعد أن شكل هذا الحراك إرباكاً لاستقرار المملكة بالنظر إلى المعاناة والفوضى التي انحدرت إليها الكثير من البلدان العربية.

إلا أنَّ الإصلاحات الموعودة لم تكن على قدر التطلعات. لا تزال المملكة قوية كما كانت دوماً، ويتمتع مستشارو الملك بنفوذ أكثر بكثير من المسؤولين المنتخبين.

هذا الأمر دفع العاهل المغربي الملك محمد السادس لإصدار تعليماته لوزيري الداخلية والمالية من أجل "قيام كل من المفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية، والمفتشية العامة للمالية، بالأبحاث والتحريات اللازمة بشأن عدم تنفيذ المشاريع المبرمجة، وتحديد المسؤوليات، ورفع تقرير بهذا الشأن، في أقرب الآجال".

وتابع البلاغ أنَّ الملك قرَّر أيضاً "عدم الترخيص للوزراء المعنيين بالاستفادة من العطلة السنوية"، من أجل دفعهم إلى "الانكباب على متابعة سير أعمال المشاريع المذكورة".

ويشكو المغاربة من الفساد والبطالة والمدارس الفاشلة، وهم يحترمون الملك ولكنهم عادة ما ينددون بـ"المخزن" ــ شبكة السلطة والمحسوبية المحيطة بالملكية، وفقاً لتقرير نيويورك تايمز.

تركت هذه الإصلاحات المُعَطَّلة الناس في الريف، الذين لطالما شعروا بالاغتراب عن السلطات المركزية، تركتهم يشكون من أنهم لا يزالون غير ممثلين. كان مكتوباً على إحدى لافتات مظاهرات الحسيمة: "هل أنتم حكومة أم عصابة؟".

إصلاحات وتمرد


بإمكان المرء أن يقول إنَّ الأمر كله بدأ منذ ما لا يقل عن قرن مضى. فقد قاد عبد الكريم الخطابي، في عشرينيات القرن الماضي، قبائل الريف في تمرد ضد إسبانيا، فأنشأ إقليماً مستقلاً. وشنت إسبانيا وفرنسا ــ القوتان المستعمرتان للمغرب ــ هجوماً وحشياً على المنطقة، ففجرت قرى واستخدمت الغاز فيها وحرقتها بأكملها، فهُزِمَ الخطابي وقضى آخر أيامه في المنفى في القاهرة.

وتقع منطقة الريف على البحر المتوسط وهي منطقة جبلية معزولة، ويتميز أهلها بالشدة والاعتزاز بتاريخ منطقتهم في مقاومة الاستعمار الإسباني. ويحتفظ أهل الريف في الذاكرة الجماعية بجمهورية الريف التي أسسها ما بين 1921 و1927 رمز المنطقة عبد الكريم الخطابي، الزعيم الذي تجاوز صيته ومكانته حدود المغرب.

ويعتقد أن الغازات التي استخدمها الاستعمار الإسباني ضد ثورات أهل الريف أثناء مقاومة الخطابي، آثارها لا تزال موجودة إلى اليوم، إذ تسجل المنطقة أعلى معدلات الإصابة بالسرطان في المغرب.

كما تتميز منطقة الريف بالخصوصية الثقافية، إذ أن أغلب سكانها ينتمون إلى القبائل الأمازيغية، يحتفون بتقاليدهم ولغاتهم الشعبية، ولكن هذه الخصوصية أخذت أبعاداً اقتصادية واجتماعية، حسب تقرير لـ"بي بي سي".

تمردت المنطقة مرة أخرى في أواخر الخمسينيات بعد أن نالت المغرب استقلالها. فقام الأمير الحسن الثاني، الذي سوف يكون ملكاً بعد ذلك، وأبو الملك الحالي محمد الخامس، حملة عسكرية.

وتعد مدينة الحسيمة مركز الاحتجاجات التي تعرف "بانتفاضة الخبز" عام 1984. وكانت الحسيمة أيضاً المدينة الوحيدة التي وقع فيها قتلى في احتجاجات 2011، حسب"بي بي سي".

سياسات محمد السادس


عَكَسَ محمد الخامس السياسة، فأطلق مشروعات بنية تحتية ضخمة ــ ميناء حاويات في طنجة وطريق سريع ــ في شمال البلاد. والكثير من المشروعات الأخرى إما وُعِدَ بإتمامها أو هي في طور الإتمام. لكن حتى الآن، لم تصل الفوائد بشكل كبير إلى السكان المحليين، الذين زادوا بدورهم من توقعاتهم، حسب نيويورك تايمز.

ووفقاً لـ"بي بي سي" حاول الملك محمد السادس فك العزلة عن الريف، إذ أعلن مشاريع لتطوير شمال البلاد، وقرب منه مسؤولين من المنطقة، ولكن يبدو أن الاستثمارات التي أعلن عنها اقتصرت على المدن الكبيرة ولم تصل إلى القرى والمناطق الأكثر عزلة.

وشهدت منطقة الريف على مر السنين هجرة عدد متزايد من أبنائها لعدم توفر أسباب المعيشة في منطقتهم، على الرغم من ازدهار وتطور العديد من المدن المغربية الأخرى واستفادتها من البنى التحتية والخدمات الاجتماعية والاقتصادية، مثل الدار البيضاء والرباط وحتى طنجة بالشمال الغربي.

وأمام هذه الضغوط والأوضاع الصعبة، استغل الشباب في الحسيمة، حادث مقتل واحد منهم وهو بائع السمك محسن فكري ، في ظروف مأساوية، للتعبير عن غضبهم وتوصيل مطالبهم إلى أعلى سلطات البلاد.

وكان ناصر الزفزافي، الشاب العاطل عن العمل، يتحدث باسمهم ويعبر عن معاناتهم، وهو يقاطع خطيب الجمعة في مسجد مدينته، ليتحدث عن ظروف المعيشة الصعبة والبطالة والفقر وغيرها من الآفات التي يعاني منها أهل الريف.

ورفض متظاهرو الريف مقابلة مسؤولين حزبيين محليين ووفوداً وزارية، وأصروا على التفاوض فقط مع مبعوثين من الملك.

تهميش الديمقراطية


تقول نيويورك تايمز إن "المخزن" (مسمى محلي للسلطة الملكية) لم يتسامح مع صعود قوى سياسية مستقلة بحق.

وراوغ القصر وحلفاؤه، بعد انتخابات 2016 البرلمانية، من أجل تخفيف نفوذ حزب العدالة والتنمية، الحزب الإسلامي الذي فاز بأعلى نصيبٍ من الأصوات، فأجبره على التخلي عن رئيس وزرائه ذي الشعبية عبد الإله بنكيران وإلزامه بتكوين حكومة مع أحزاب من اختيار القصر.

ومن خلال انتقاء الأحزاب السياسية وتقويضها ومضايقة وسائل الإعلام والتحرش بالمجتمع المدني، لم يعد لدى النظام المغربي الكثير من الوسطاء الموثوق بهم في لحظات الاضطراب الاجتماعي، حسب نيويورك تايمز.

ومع أنَّ لإقليم الريف تاريخه الخاص، فإنَّ مطالب المتظاهرين تجد صدى لها في البلدات والمناطق الريفية في كل المغرب. كان من الممكن أن تكون هذه الانتفاضة فرصة لمناقشة التنمية غير العادلة في البلاد وعدم وجود المحاسبة للمسؤولين المحليين.

لكن وسائل الإعلام "الموالية" للقصر بدأت حملة ضد المتظاهرين، متهمة إياهم بأنهم عملاء يقبضون من أطراف خارجية، وانفصاليون يهدفون لبدء حرب أهلية. أدى هذا إلى انقسام البلاد، فاصطف الكثير من المغاربة مع العلم والملك ضد مثيري المتاعب في جبال الشمال.

اعتُقِلَ أكثر من 100 من قادة وأعضاء الحراك في الأسابيع الأخيرة. ويبدي المراقبون الليبراليون هنا قلقهم من هذه الحملة، خوفاً من أنها خطوة إلى الوراء باتجاه الماضي القمعي للبلاد.

دور الإسلاميين


انطلقت مظاهرات التضامن في كل أنحاءِ البلاد. ملأت أكبر هذه المظاهرات شارعاً رئيسياً على شكل نخلة في العاصمة الرباط في 11 يونيو/حزيران 2017 ، ووصل عدد المتظاهرين إلى الآلاف.

شاركت جماعة العدل والإحسان الإسلامية المحظورة في تنظيم هذه المظاهرة، وهي جماعة لا تعترف بالملك باعتباره أكبر سلطة دينية في البلاد. ومن غير الواضح ما إذا كان قادة الحراك يرحبون بانضمام الإسلاميين إلى حركتهم، ذلك أنهم لا يستطيعون التعبير عن رأيهم من داخل السجن، حسب نيويورك تايمز.

مِن جانبه، شدد رئيس الحكومة المغربية ذَو الخلفية الإسلامية سعد الدين العثماني، على ضرورة احترام المقتضيات القانونية في التعامل مع احتجاجات الحسيمة، والتحقيق في أي تجاوز، مجدداً ثقته في القضاء من أجل الترجمة الكاملة للتوجيهات الملكية لاحترام ضمانات المحاكمة العادلة، والتحقيق في كل مزاعم التعذيب.

وأعرب العثماني، في تصريح صحافي الأربعاء 28 يونيو/حزيران 2017، عن أسفه وحزنه لما شهدته الحسيمة من أحداث مؤلمة، جرح على إثرها عدد من الضحايا سواء من المحتجين أو من قوات الأمن.

ودعا رئيس الحكومة إلى ضرورة تضافر الجهود لتحقيق أجواء إيجابية، مناشدا سكان الحسيمة التعاون من أجل إقرار الهدوء والأمن اللازمين لإنجاح المشاريع التنموية.

وبخصوص القرارات التي اتخذها الملك محمد السادس حول المشاريع المقررة لإقليم الحسيمة خلال المجلس الوزاري الأخير، أكد العثماني أن الحكومة "في حالة تعبئة شاملة لتطبيق هذه القرارات وتتبع تنفيذها على أحسن وجه".

وأضاف أن الحكومة تقدر، عالياً، الاهتمام الكبير الذي يوليه الملك للإقليم وحرصه البالغ على الوفاء بالالتزامات المسجلة بحزم وتطبيق قواعد المحاسبة إزاء أي تقصير أو تهاون أو خلل، مذكراً بالتنبيه الملكي إلى الامتناع عن أي استغلال سياسي ضيق للمشاريع.

وأعلن أنه طالب أعضاء الحكومة بإعداد تقرير مفصل حول وضعية المشاريع المقررة للمنطقة ومستوى التقدم والإشكالات المطروحة والتواصل الفعال والقريب مع كافة المعنيين بهذه المشاريع وإشراك الهيئات المنتخبة والمجتمع المدني في التتبع والتقييم.

هل يمنع القمع المظاهرات؟


المطلب الأساسي للمظاهرات الآن هو الإفراج عن أعضاء الحراك. وهناك دعواتٌ لإضراب عام، ومزاعم بأنَّ المتظاهرين قد لُفِّقَت لهم اتهامات وأسيئت معاملتهم في السجن. وقد حُكِمَ على 25 من نشطاء الحراك بـ18 شهراً في السجن.

وفي القلب من المظاهرات يأتي هذا الشعور بأنَّ ثمة ازدواجية في المعايير، وبأنَّ أهل الريف مواطنون من الدرجة الثانية وأن منطقتهم قد تُرِكَت دون تنمية، حسب نيويورك تايمز.

وتضيف الصحيفة الأميركية: "هذه المظاهرات دليلٌ على الانفتاح النسبي للمغرب، وعلى التوقعات بالتغيير التي غذاها هذا الانفتاح، وعلى أنَّ المتظاهرين شعروا بالقوة اللازمة لانتقاد السلطات".

وترى نيويورك تايمز أن قمع المعارضة في الريف لن يؤدي إلى التخفيف من مظالمه. فهذا القمع لا ولن يمنع مطالبات مشابهة معتادة ــ مطالبات بالوظائف، والعدل، والحكم الأفضل ــ من أن تخرج من أماكن أخرى في البلاد.

تحميل المزيد