تموجّت تأوهاته عابرة أوتار غسق الليل؛ لتسفر عن هذا الملك العماني الراقد على فراشه، لا يكاد يأمن من روعه إلا وقد ناجته سكرات الموت الذي طال انتظاره ولم يأتِ، وفي غضون تلك الحالة المزرية، يخترق ذاك الصمت -الذي قد شُيّد منذ أيام- صوت طرق الباب، وملياً انفرج حاجباه عندما أبصر ذاك الرجل الأسمر، جبينه يفسر ما قد حلَّ به من العرق، وصلابة جسده تبعث في نفسك الخوف إذا تسنّى لك سماع طرق باب حجرة الملك.
* مولاي، هناك رجل أتى إليك من الشام يقصدك في خير.
– مَن أنت؟! فأنا لم أعهد رؤيتك من قبل.
* أنا حاجبك الأمين يا مولاي.
– وماذا بوسعي أن أقدم لهذا الشامي؟ ألا تبصرني يا صاح؟!
* لقد كاد يطيحني جانباً مولاي لولا أن أذنت له.
– أدخله، علّه يكون آخر ما أراه في هذه الدنيا.
لم يستمر هذا المشهد طويلاً، حتى أبصر وجهاً من النور يقترب منه، كلما اقترب أثلج صدره، وأمن روع صيحاته، وبمحياه التي قد انفرجت عندما أبصر الملك:-
* مولاي، حمداً لله أنك ما زلت حياً.
– مَن أنت؟! وفي أي خير تقصدني؟
* علمتك من أمراء الشام، وقد أخبروني بأنك من ملحدي العرب، وعندما علمت أنك على مشارف المنيّة منذ أيام، وجدت نفسي أنطلق إلى عمان لأحاجّك.
– أرني الله.
* ستراه مولاي، ولكن ليس بعينيك، سأجعلك تراه بقلبك.
– لقد سئمت سماع تلك العبارات المتغطرسة، ما يحملني أن أؤمن بمن لا أراه؟ وهل تعني قسوة الرجل منا أنه لن يرى الله؟
* تفقد حجرتك مولاي وستراه.
فجعلت مقلتا الملك تنتهكان تلك الحجرة بنظرات قد طالت، ولم يبصر الملك شيئاً.
– ما بالك يا رجل؟ أجئت إليَّ لتؤلمني على ألمي؟
* حاشا لله يا مولاي؟ ما عساي أن أزيد من ألمكم، ولكني أريد أن أذوق تلك الآلام عنك.
مولاي، هل تؤمن بوجود قيمة للصفر؟
– الصفر؟! نعم، هو عدد كباقي الأعداد الحسابية.
* أنت إذاً مؤمن بوجود الله يا مولاي، إن إيمانك بوجود قيمة للعدم المطلق يقتضي من عقلك الإيمان وجود قيمة للكمال المطلق.
إنه الله يا مولاي، الذي قد نطقت باسمه الرياضيات منذ أمد بعيد.
– كيف أؤمن بمن جعل تلك الحياة مقتضى قرار له مع الملائكة، الأصل فيها هو قرار؟ كلمة قيلت وتشكلت مثواها تلك الحياة.
* الأصل يا مولاي ليس كما حدثنا به آباؤنا، إنه قابل للتغيّر والتبدل.
يا مولاي، لقد ولدنا حميعاً إناثاً، كان الجزء المفعل من تركيبنا الجيني هو فقط المدعي بكونك أنثى، هذا هو الأصل مولاي، ولكن سرعان ما قد مرت الأشهر على كونك جنيناً؛ ليكتمل ذاك التركيب، لتصبح رجلاً يتنافى تماماً مع وجود أصل الأنثى.
– خلقتني الصدفة يا رجل.
* كيف يا مولاي؟ كيف يمكن للصدفة أن تنثر مواد هذا الكون بعد الانفجار العظيم بمثل تلك الدقة؟ كيف يمكنها أن تحدد هذه الأبعاد المكانية التي قد نعجز نحن عن إدراكها؟ كيف تتزامن كل تلك الحقائق وتقيد نحو متهم تدعي أنه صدفة؟ مولاي، ألم ترَ الله بعد حين؟
– ألا تبصرني يا رجل، كيف لي أن أؤمن بعد أن رددت إلى أرذل العمر؟ تفقد الشيب يا بني، ملّ عينك من تجاعيد وجهي.
* ألا يوسع رحمة الله الذي قد بعثني إليك أن تتداركك مولاي؟
– أهو مَن بعثك؟!
* نعم يا مولاي.
– أخشى من نهايتي.
* لا تهابها مولاي، سيعلم المؤلف جيداً ضرورة النهاية، وسيختار لك النهاية التي ترضاها، أما الآن فقد أنهى هو دوري في هذه القصة.
– عجبت لك يا رجل، مال لهجتك ومظهرك تختلف عن بني الشام؟
* لأني لا أسكنها الحين يا مولاي.
– إذاً أين تسكن؟
* أسكن بعيداً عنكم، أقاصي هذا العالم التي لا تؤمن بوجود خالق له، أنا أسكن مع خالقه يا مولاي، أسكن عند سدرة المنتهى، إنني ملك الموت يا مولاي الذي قد بعثني الله إليك، وهأنذا قد جئت إليك.
– هل لك أن تمهلني ملياً قبل أن تقبض روحي؟
* "حتى إذا جاء أجلهم فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون".
– وماذا عن هذا الأسمر؟ ماذا ستقول له؟!
– إنه ليس خادمك يا مولاي، إنه إبليس، كاد يستوقفني أن أدخل عليك.
لن ترى الله إلا إذا نظرت إليه، احلل وثاق عينيك وتفقد السماء أيها الملك.
انصرف ملك الموت ليصبح هذا الملك وحيداً بين أستار تلك الصومعة، ينظر فقط إلى السماء، وقد اغرورقت عيناه بالدمع، زانها هذا الألم الذي بدأ يسري في جسده، في كل ذرة من جسده، ليعلم أنها سكرات الموت التي قد طالت منذ أيام.
أغمض عينيه مستسلماً لأمر الله خالقه، حتى غادرت روحه لتودع هذه الصومعة إلى الأبد، وقبل أن يترك الدنيا، ترك للدنيا رسالة، أو رواية، أو مقالاً افتتحت جُمَله بـ"أنا أفكر إذاً أنا مؤمن".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.