فاس.. عاصمة علمية مع وقف التنفيذ

قبل التحاقي بالجامعة، اعتقدت -بسذاجة- أن مدينة فاس ما زالت تعتبر مَحجاً لطلبة العلم يلجأون إليها من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ولينهلوا من جامعاتها ومعاهدها معارف وعلوما شتى، كنت أظن أنهم يتباهون ويفخرون بالانتماء إلى طلبتها تماماً كما كان يفخر طالب العلم بتتلمذه على يد علماء جامعة القرويين وتخرجه فيها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/26 الساعة 09:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/26 الساعة 09:08 بتوقيت غرينتش

اعتقدت دائماً أن إيمان الكاتب بقضية معينة وانفعاله بها، أو معاناته واقعاً معيشاً وطموحه إلى تغييره- هو الوقود الذي يغذي جذوة الإبداع لديه ويجعل كلماته أكثر عمقاً ودلالةً وييسر عليه انتقاء المفردات التي يستعملها في سبيل التعبير عما يختلج صدره؛ بل خُيّل إليَّ أن المفردات هي نفسها التي تختار الانعتاق من بوتقة اللامعنى لتسهم في تشكيل معانٍ يختلط فيها انفعال العاطفة بقساوة الواقع.

إلا أن الأمر لم يصدق معي تماماً؛ ربما لأن الكتابة عن مدينة فاس ليست شبيهة بالكتابة عن باقي المدن، فالبحث في خبايا تاريخها ومعايشة واقعها في آن واحد يجعلك في حيرة حقيقية من هول ما تكتشفه من تناقضات، تصل بك إلى درجة التشكيك في حقائق التاريخ نفسها.

إذ بِمَ نفسر كون المدينة التي كان يشار لطالب العلم إليها بالبنان والتي أسرت أيام مجدها أهم أعلام الفقه والأدب والطب والفلك، من ابن خلدون وابن باجه وابن البناء وابن عربي وابن الخطيب؛ بل لم يقتصر الأمر على استقطاب أسماء عربية فقط، وإنما امتد ليشمل رموزاً غربية كالبابا سلفستر الثاني أول بابا فرنسي في تاريخ الكنيسة.

كيف للمدينة التي كانت مركزاً للعلم والمعرفة بفضل الحلقات والكراسي العلمية التي تضمها معظم مساجد المدينة والمدارس التعليمية المتناثرة في كل دروبها، وما تتوفر عليه من مكتبات تزخر بأجود الكتب وأنفسها، حتى قيل في تصوير محافلها العلمية:
والحلقات في الصباح والمسا معـقـودة لبحر عـلـم دُرسَــا
وبين مغرب ومن قَـبْل عـشـا يُزِيح عالم عن الفكر العَشَا
وقـبـل فـجـر وطـلوع شمـس يـجـود عـــالــم لـنـا بــدرس
وربـمـــا اســـتــمــر للـــزوال بعـون مـولانا عـلى المـقـال

فاستحقت بذلك لقب العاصمة العلمية لا مصادفة ولا مجاملة، وإنما استحقاقاً وعرفاناً برمزية مدينة أسهمت في صنع المجد العلمي والحضاري لبلد بأكمله، كيف لهذه المدينة أن ترزح الآن تحت نير التهميش والإهمال العلميين بالدرجة الأولى؟!

قبل التحاقي بالجامعة، اعتقدت -بسذاجة- أن مدينة فاس ما زالت تعتبر مَحجاً لطلبة العلم يلجأون إليها من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ولينهلوا من جامعاتها ومعاهدها معارف وعلوما شتى، كنت أظن أنهم يتباهون ويفخرون بالانتماء إلى طلبتها تماماً كما كان يفخر طالب العلم بتتلمذه على يد علماء جامعة القرويين وتخرجه فيها.

كنت أتصور المدينة وقد ارتقت كراسيها وحلقاتها إلى صالونات علمية وأدبية يحضرها كل متعطش إلى الأدب والعلم والثقافة، تنظِّم بشكل دائم وعلى مدار السنة أياماً ثقافية، ندوات فكرية، ملتقيات ومنتديات علمية، تُحيى فيها ليال شعرية وأدبية.

بل ولم لا تخصَّص جائزة علمية وأدبية باسمها كمكافأة تشجيعية للإنجازات العلمية والأدبية المتفوقة على الصعيدين الوطني والدولي على غرار ما هو معمول به في الدول المتقدمة، تصور كان سيعتبر منطقياً لو نظرنا إليه بعيون الأولين باعتباره استمراراً وامتداداً طبيعيين لتاريخ مدينة حافل بالعطاء.

مرت الأيام، واكتشفت واقعاً دون التوقعات، واقعاً ينمّي شعورك بالخجل والحسرة، ويدفع كل غيور إلى دق ناقوس الخطر؛ بغية إيجاد حل لما آلت إليه أوضاع المدينة.

فلا أنشطة ولا ندوات علمية أو ثقافية بالعدد الكافي الذي يروي ظمأ مدينة ألفت العلم والمعرفة راوياً لها. أما مكتبات المدينة، فيمكن عدها على رؤوس الأصابع، ربما قد يقول قائل إنه لا ينبغي أن ننظر إلى المكتبات من زاوية عددها وإنما ينبغي تقييمها من حيث تنوع وجدة الكتب والمراجع التي تتوفر عليها، ومدى استجابتها لحاجات الباحثين في مختلف التخصصات. لكن حتى وإن سلطنا الضوء عليها من هذه الزاوية، فإن الحكم سيكون أقسى وأشد.

فباستثناء الأعمال الروائية والقصصية وكتب الثقافة العامة التي تزخر بها المكتبات، فإن المراجع المتخصصة في باقي المجالات العلمية تشهد نقصاً حاداً من حيث جدّتها وكميتها، بشكل يدفع الباحثين في العديد من التخصصات إلى تحمُّل مشقة السفر إلى مدن أخرى في سبيل الحصول على الكتب والمراجع والمجلات الأساسية من أجل إنجاز بحوثهم. فأين الريادة التي تحدثنا عنها؟! أين الفخر؟! بل وأين "العاصمة العلمية" نفسها من كل هذا الوضع؟!

لقد كان للأولين ما يفاخرون به الأمم ولم يفعلوا، فها هو إدريس الثاني، مؤسس مدينة فاس، يدعو في خطبة تأسيس المدينة مناجياً ربه وموجِّهاً رسالته للخَلَف من بعده: "اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاةً ولا مفاخرةً، ولا رياءً، ولا سمعةً، ولا مكابرةً، وإنما أردت أن تُعبد بها، ويُتلى بها كتابك، وتُقام بها حدودك، وشرائع دينك، وسُنة نبيك ما بقيت الدنيا..".

فاستجاب له ربه وفتح على أهل المدينة من صنوف العلم والمعرفة الكثير، أما نحن -سادتي- فليس لنا ما "نفخر" به سوى تاريخ صنعتم أمجاده ونحن ماضون في تبديده، إلى أن يخرج الله من أصلابنا من له القدرة على إيقاف مسلسل الانحدار ويبعث الحياة في شرايين المدينة من جديد.. فلا تظل مجرد عاصمة علمية "مع وقف التنفيذ".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد