حسناً، هذه ليست مقالة كليشيه حول الحجاب، وليست عن اللواتي خلعن الحجاب، ولا عن أيقونات المحجبات في وسائل التواصل الاجتماعي. أنا فقط أريد المساعدة.
لكن لنتفق على أرضية ننطلق منها، فأنا لا أريد العودة إلى نقاش: هل الحجاب فرض أم لا؟ سنعتبر أنه واجب. وهذا يكفي لأن ننصاع له، لأنه ليس على أحكام ديننا أن تكون متوافقة مع رغباتنا. وليس علينا أن نبرِّرها بشكل علمي ومقنع. أما بقية التفاصيل، من شروط وغايات وتطبيق فهي مفتوحة، والله أعلم.
أنا أكتب لأنني أفكر بابنتي ماريا ذات الـ7 سنوات، فقد كنت محجبةً وأنا في عمرها! نعم، لقد تحجَّبت في ثالث يوم من الصف الأول في المدرسة، حجاباً على الرأس، بالإضافة إلى جلباب صمَّمته أمي عند خياطة، كان لونه بنفسجياً، ما زلت أذكر حتى اليوم نظرة طلاب حافلة المدرسة المشدوهين عندما خرجت من باب المنزل بكل ثقة، وأنا ألبس حجابي الكامل لأدخل الحافلة مثل أي يوم عادي!
وعندما بدأ أولاد صفِّي بالسخرية الطفولية من حجابي، لأنهم يعرفون شعري، أجبتهم بأنني ذهبت إلى الكوافيرة وغيَّرت تسريحة شعري قبل أن أتحجَّب.
كان الحجاب بالنسبة لي تحصيل حاصل، وشيئاً طبيعياً. كان حلماً أتمنَّاه لأقلد أمي وأخواتي الكبريات. أنا محجبة منذ 26 عاماً، بل منذ وعيت على الدنيا، ولم أشعر ليوم واحد أن حجابي قد حرمني شيئاً، أو كان عبئاً عليَّ، والفضلُ في ذلك يعود لأمي -أثابها الله- في غرس كل تلك الثقة بالنفس والثبات على الحق، فلم يخطر على بالي مرةً واحدةً، أن تمنَّيت ألا أكون محجبة. مع أنه كان غريباً جداً أن نكون أنا وأخواتي محجبات في ذلك الوقت، وعادة ما كنَّا نحن المحجبات الوحيدات في معظم الأماكن، كالمدرسة والمسابقات والنوادي الرياضية… إلخ.
ابنتي ماريا تطلب أحياناً أن تلبس الحجابَ مثلي، فأدعها تفعل ذلك، لكنني في انتظار الحوار الجدي حول الحجاب الذي سيحصل قريباً. وحقيقة أنا لا أعرف ماذا سأقول، هل أُمرت الفتياتُ بالحجاب وليس الرجال لأنهن أجمل، ويسبِّبن الفتنة؟ لكن أليس الرجال فتنة أيضاً؟ خاصة إن كان رجلاً وسيماً، أو عاري الصدر مثلاً من المشاهير، ألا تتهافت الفتيات عليهم؟
أم أن الحجاب يحمي المرأة لأنها جوهرة؟ مما يذكرني بمقولة: إن أردتَ أن تشوِّه فكرة ما، فلا تهاجمهما، بل دافع عنها بضعف!
أم أن الحجاب هوية؟ ففي رحلتي إلى الهند العام الماضي -وأؤكد أنني لم أذهب للتأمل والبحث عن الحقيقة بل كانت رحلة عمل- أكثر ما لفت نظري ملابس النساء، فقد كنت تعرف أنك في الهند من ملابس نسائهم، فقد كنَّ على اختلاف ديانتهن، ومستواهن الاجتماعي والمادي، وعلى اختلاف الأقاليم يلبسن ملابسهن التقليدية مع اختلافات بسيطة، ويحضرني ما قاله فرانز فانون في كتابه: "سوسيولوجيا ثورة": "تكون خصائص الثياب الفنية وعادات اللباس والزينة من أكثر أشكال الأصالة بروزاً للعيان، وأكثر الأمور التي يمكن إدراكها مباشرة في أي مجتمع. ففي داخل أي مجموعة، توجد على نحو جلي تغييرات جزئية، ولكن المظهر العام يبقى متجانساً بحيث يتمكن الإنسان من تصنيف مساحات شاسعة من الحضارة ومناطق ثقافية هائلة بالاستناد إلى فنون اللباس المتكررة، والمحددة للرجال والنساء".
ذلك أن نماذج المجتمعات تُعرف من خلال اللباس، قبل أي شيء آخر. وهكذا فإن هناك حضارات من دون ربطات عنق، وأخرى من دون قبعة، ويكون الانتماء إلى مساحة ثقافية معينة، في أغلب الأحيان، مشهوراً بتقاليد الألبسة عند أعضائه. فالحجاب الذي تضعه نساء المسلمين هو ما يراه السائح مباشرة، ومن الممكن أن يأخذ الإنسان أمداً طويلاً ليعرف أن المسلم لا يأكل لحم الخنزير، أو أنه يمتنع عن العلاقات الجنسية من دون زواج، ولكن حجاب المرأة يبدو ثابتاً إلى حدٍّ أن يكفي بصورة عامة ليميز المجتمع المسلم.
لكن هل نستطيع التعميم، أن أي امرأة تغطي رأسها هي محجبة؟ أذكر هنا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا"- وأشار إلى وجهه وكفيه.
ثم إن سلَّمنا أن الحجاب لا يصف ولا يشفّ، وليس زينة بحد ذاته، من بقيت بعد هذا التعريف محجبة؟ ناهيك عن حمَّى التسابق لملابس المحجبات التي تُناقض جذرياً ما أسلفنا عن الزينة. لكن أليس من حقي كامرأة ترتدي الحجاب لمدة قد تزيد عن العشر ساعات يومياً في مجتمعات ليست مسلمة بالمطلق -لأن الله لم يأمرنا بالحجاب ليعذّبنا كنساء- في أجواء يتواجد فيها الرجال دائماً، أليس من حقي أن أرتدي ملابس تعبِّر عن ذوقي وشخصيتي، بدءاً من الألوان وانتهاء بالتصاميم؟
أم أنه حجاب القلب والجوارح، ويكفيني أن أكون محافظة فحسب، فكم من فتاة محتشمة لا تغطي رأسها، أفضل من فتاة محجبة الرأس فقط؟ لكن مهلاً، ليس كل من غطَّت شعرها محجبة. ومما يضحكني عندما يهنئ الناس فتاة تحجبت حديثاً بعد أن غطت رأسها فقط، دون أن تغير من ملابسها، ليقول لها الجميع: تبدين أجمل بالحجاب. وفي هذا ما يناقض جوهر الحجاب.
وأنتقل هنا إلى أكثر الصور إهانة رأيتها في حياتي، لكنها تفسر الكثير، كانت إعلاناً تجارياً لمعاطف الفرو على واجهة ضخمة في مطار ماركو بولو في فينيسيا بإيطاليا، يظهر فيها رجل يلبس معطف فرو وثيراً ويحضن امرأة عارية وسط عاصفة ثلجية. فلماذا نتعجب لأن الرجال يلبسون ملابس ساترة أكثر من النساء، إنها ليست طبيعة المرأة أن تحب لفت النظر وإبراز الجمال فحسب، فالرجل يستر نفسه ويعرّيها برضاه ليمتّع نفسه، في مجتمعات ذكورية على مرِّ التاريخ.
ثم وصلنا مطار إسطنبول قادمين من فينيسيا، حيث بدأ الحجاب الذي كان غائباً في أوروبا بالظهور، ومع قليل من الملاحظة، بدا الرجال عمليين للغاية، ملابسهم متشابهة، أما النساء فلقد كانت ملابسهن بستاناً من الألوان والأشكال، فقد خلقنا الله مختلفاتٍ بكل شيء، متفاوتات في الألوان والأحجام والملامح والجمال على اختلاف تعريفه، وخلق الله كذلك عقول وقلوب الرجال، وهو يعرف أن شكل المرأة يؤثر على الرجال بطريقة أو بأخرى.
فكرت لأول مرة أن الله قد أمر المرأة بالحجاب لأنه عادل، ولأنه يعرف أن الرجل ليس كذلك، أمرنا بالحجاب كي لا تظلم التي يعتبرها المجتمع قبيحة وغير جميلة، أمرنا بالحجاب لكي نتشابه، كما يتشابه الرجال بأشكالهم وملابسهم. فعندما تتحجب النساء، يتشابهن في الشكل، حتى يضطر الرجل أن يفكر بعقله ليقرر من الأنسب للوظيفة بناء على الأداء، بدل أن يميل قلبه إلى الأجمل، وأن يقرر من يتزوج بناء على التوافق والمبادئ المشتركة، بدل أن يكون الأساس الشكل الزائل.
وأمر بالحجاب ليريحنا كنساء من حمَّى التزيُّن، ليخفِّف من جنون التَّسابق والتَّنافس في الملابس، ليحصره على نطاق ضيق، وليجعل مقياس تفاضلنا كنساء فيما بيننا أرقى!
وأخيراً بعد كل فوضى الأفكار هذه، ساعدوني حتى أبدأ الحوار مع ماريا لأقول لها: أتعرفين أنني كنتُ محجبةً وأنا في عمرك؟ لأجيب بعدها عن سيل الأسئلة من صغيرتي الذكية الفضولية، ثم أحضنها طويلاً، وأصمم لها حجاباً باللون الذي تريد!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.