الجنين

سأعتبر أن الأستاذ إياد استخدم "ثم" بدل الفاء سهواً وليس قصداً حين قال بأن العظام تتشكل قبل اللحم "ثمَّ" تُكسى. فأي طالب بسيط يعلم أن هناك فرقاً كبيراً بين حرفي العطف ثم والفاء. فحرف العطف "ثم" يفيد عطفاً تراتبياً على التراخي. جاء زيد ثم عمرو يعني أن زيداً أتى أولاً وبعد فترة أتى عمرو. أما لو قلنا جاء زيد فعمرو فمعنى الكلام أن زيداً أتى يتبعه مباشرة عمرو

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/14 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/14 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش

في منشور نشره الأستاذ إياد شربجي، الكاتب السياسي الساخر ورئيس تحرير موقع "السوري الجديد"، على صفحته على الفيسبوك، وفي معرض تناوله لبرنامج أنتي إلحاد للدكتور أحمد خيري العمري، قال في النقطة الثالثة من المنشور:

3- من حيث المحتوى لامس الدكتور العمري بواقعية وكفاءة وجرأة الكثير من الأسئلة التي يفكّر بها شباب اليوم وتدفعهم للابتعاد عن الدين، وهذا يحسب له، لكنه في ذات الوقت يرتكب خطأً منهجياً آخر في الخلاصات، عندما يعود للإيمان نفسه ولأدبياته ليجيب عن بعض الأسئلة ويجد له تفسيراً عدا عن أنه غير متداول وغير مقبول من معظم المسلمين (وهذا يمكن تبريره من زاوية الإصلاح الديني) فإنه يعوز إلى الاستدلالات المنطقية والمحاكمات العلمية التي يعتمد عليها الملحد في صوغ قناعاته واستنتاجاته، مثلاً لا يكفي أن يعترف الدكتور العمري في حلقته عن الإعجاز العلمي بسخافة الكثير من الطروحات الإسلامية في هذا المجال، ولا يكفي أن ينزع عنها قدسيتها الدينية عندما يقول إنها نظريات مختلقة ومفبركة. مشكلة المنكر للقرآن ليست هنا فقط، بل في النصوص التي تتضمن أخطاء علمية واضحة، ولا يستطيع د. العمري ولا أي إسلامي أن يفسرها، كمثال الآية التي طرحها (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)، وأمام هذا النص الذي يتضمن خطأً تشريحياً واضحاً، بقوله إن العظام تتشكل قبل (اللحم) ثم تُكسى، لن تنجح أية محاولة لإعطاء حرف الـ (ف) معنى جديداً، كالقول إنها لا تفيد الترتيب الزماني كما برر د.العمري، فهذا تفسير كيفي له، لا يتطابق حتى مع آيات أخرى تؤكد أنها الفاء السببية التي تفيد الترتيب الزماني، كمثال على ذلك (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)، الواضح أن الصيام لا يأتِ إلا بعد بلوغ الشهر".

ما يهمني من هذه النقطة الثالثة مأ أورده الأستاذ إياد عن تضمن القرآن الكريم ما ادَّعى أنه خطأٌ تشريحي واضح في قوله تعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) بأن العظام تتشكل قبل اللحم "ثمَّ" تُكسى، مستخدماً حرف العطف "ثم" بدلاً من الفاء التي استخدمها البيان الإلهي.

سأناقش دعوى الأستاذ إياد من الناحية اللغوية ثم من الناحية الطبية الجنينية اعتماداً على آخر ما وصل إليه علم الجنين البشري اليوم.

أولاً: الرأي اللغوي

سأعتبر أن الأستاذ إياد استخدم "ثم" بدل الفاء سهواً وليس قصداً حين قال بأن العظام تتشكل قبل اللحم "ثمَّ" تُكسى. فأي طالب بسيط يعلم أن هناك فرقاً كبيراً بين حرفي العطف ثم والفاء. فحرف العطف "ثم" يفيد عطفاً تراتبياً على التراخي. جاء زيد ثم عمرو يعني أن زيداً أتى أولاً وبعد فترة أتى عمرو. أما لو قلنا جاء زيد فعمرو فمعنى الكلام أن زيداً أتى يتبعه مباشرة عمرو. فلو كان البيان الإلهي قد صرح: "فخلقنا المضغة عظاماً ثم كسونا العظام لحماً" لكان يُفهم من ذلك تشكل العظم أولاً حتى إذا تشكل كُسي لحماً. لكن البيان الإلهي قال: "فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً" في ترتيب زماني واضح سنناقشه أدناه.

ثم يتابع الأستاذ إياد مغالطته حين يقول: "لن تنجح أية محاولة لإعطاء حرف الـ(ف) معنى جديداً، كالقول إنها لا تفيد الترتيب الزماني كما برر د.العمري، فهذا تفسير كيفي له، لا يتطابق حتى مع آيات أخرى تؤكد أنها الفاء السببية التي تفيد الترتيب الزماني كمثال على ذلك (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) الواضح أن الصيام لا يأتِي إلا بعد بلوغ الشهر".

لنا هنا تصحيح للأستاذ إياد، فالفاء في قوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" هي الفاء الرابطة لجواب الشرط، ومع ذلك سنعتبرها سببية بالمعنى وليس إعراباً، أي أن سبب الصيام هو دخول الشهر، ما يؤدي إلى أن شهود الشهر سابق على الصيام، لكن الجميع يعلم أن الصيام وشهود الشهر يتلازمان طيلة رمضان بعد دخول الشهر. فالمسلم يشهد الشهر يوماً فيوماً، ويصومه كذلك يوماً إثر يوم.
فالفاء الرابطة لجواب الشرط إعراباً والتراتبية السببية إياداً لا تعني انفصال المتراتَبَيْن بل تفيد تلازمهما كما قصدت الآية. ويثبت ذلك أن هناك من يشهد الشهر لكن لا يصومه، أي لو أن شهود الشهر يأتي ثم يصوم الناس في فعلين كتراتبين منفصلين لاختل المعنى اللغوي والمقصدي.

إذاً فإن الفاء تفيد ترتيباً على غير تراخٍ كما أنها قد تفيد تلازم المعطوفين واستمرار فعلهما كما في شهود شهر رمضان وصيامه. وهذا ما لم يوضحه الأستاذ إياد فيما كتبه، نظن ذلك جهلاً أو سهواً منه لا قصداً.

ثانياً: الرأي العلمي

وقبل العودة للآية الكريمة في قوله تعالى: "فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً" فإني أود تسجيل رأيي بظاهرة الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.

لا شك أن في القرآن إشارات علمية في خلق الإنسان والكون تثبت بالدليل العلمي القاطع استحالة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بها حين تنزلت عليه آياتٍ بيناتٍ؛ لعدم تطور العلم في حينه. لكن القرن العشرين شهد انفجاراً في المعلومات أيد هذه الآيات التي أعتبرُها قليلة العدد وليس كما ذهب أصحاب الإعجاز العلمي لإثبات أن في كل آية تقريباً إعجازاً فحملوا الآيات ما لا تحمل، بل وفي أحيان أخرى افتروا حوادث لم تحدث في سبيل اختراع إعجاز في آية كما في القول المنسوب لوكالة الفضاء الأميركية إنهم شاهدوا شقاً على سطح القمر فسَّروه بأنه عبارة عن التحام نصفي القمر بعد انشقاقه تصديقاً لقوله تعالى: "اقتربت الساعة وانشق القمرً".

لكن تبقى في القرآن إشارات إعجازية واضحة لعل أهمها مراحل تطور الجنين والتي شهد عليها أحد أعلام علم الجنين البروفيسور كيث موور، بل وضَمَّن إحدى طبعات كتابه رأيه أن ما ورد في القرآن الكريم عن خلق الإنسان دقيق جداً، ولا يمكن أن يكون قد عَلِمه الرسول صلى الله عليه وسلم في حينه.

وفيما يلي ما كتبه البروفيسور موور عن الموضوع:

This continuation of Sura 23:14 indicates that out of the chewed lump stage, bones and muscles form. This is in accordance with embryological development. First the bones form as cartilage models and then the muscles (flesh) develop around them from the somatic mesoderm.
"وفي تتمة الآيات من سورة 23 الآية 14 تشير إلى تشكل العظام والعضلات من مرحلة المضغة. هذا يتوافق مع التطور الجنيني. أولاً تتشكل العظام كنماذج غضروفية ثم تتطور حولها العضلات "اللحم" من الأدمة الوسطى الجسمية".

Dr Keith Moore confirms embryology in Quran

ومع ذلك فإنني لم أعتمد على كلام البروفيسور موور وراجعت الأمر بنفسي في المراجع الحالية؛ إذ لعل هناك تغيراً طرأ على علم الجنين غيَّر من المعلومة التي كان قد خطَّها البروفيسور موور منذ أكثر من ربع قرن، هذا التغيُّر الذي عَلِمَه الأستاذ إياد فأشار له في معرض منشوره عن برنامج الدكتور العمري دون أن يشير إلى المصدر رغم أن ذلك من ألف باء العمل الصحفي الذي لا يشق للأستاذ إياد فيه غبار. مرة أخرى عزوت الموضوع إلى "سقط سهواً".

راجعت الموضوع على الشبكة العنكبوتية عبر برنامج البحث جوجل ووصلت إلى"مقرر مادة الجنين" على موقع جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا.

وهذا ما ذكره الموقع والذي يوافق ما ذهب إليه البروفيسور موور، والذي سأحاول تبسيطه ليفهمه القارئ العادي:
يبدأ تشكل الجنين البشري بتميز أدمات ثلاث: الداخلية، والوسطى، والخارجية وهي ثلاث طبقات تصطف فوق بعضها بنفس الترتيب.

من الأدمة الوسطى سيتشكل الجهاز الجلدي والجهاز العظمي العضلي.
هذه الأدمة الوسطى تبدأ بالتمايز الخلوي فتشكل فلقة واحدة لا تلبث أن تتمايز إلى قسمين: السكليروتوم الذي سيشكل العمود الفقري والديرمومايوتوم.
"ثم بعد ذلك" يتمايز الديرمومايوتوم إلى الديرموتوم الذي سيشكل بشرة الجلد والمايوتوم الذي سيشكل العضلات.

هذه معلومة واضحة جداً في أسبقية تشكل العظام على العضلات في العمود الفقري.

فماذا عن الأطراف؟

في الأطراف يتم تشكل الجهاز العظمي العضلي على الشكل التالي:
تقوم الأدمة الوسطى في البرعم الطرفي المتشكل بالتمايز وتشكيل غضروف الذي لا يلبث أن يتعظَّم (أي يصبح عظمياً) بعملية التعظُّم الغضروفي.
وتقوم فلقات من الأدمة الوسطى بالهجرة إلى البرعم الطرفي. هذه الخلايا المهاجرة في البرعم الطرفي تتكاثر في أماكن تشكل العضلات، وتلتحم لتشكل أنابيب عضلية "ثم" تتمايز لتشكل الخلايا العضلية الهيكلية.

هذا التطور الجنيني إذاً استلزم أن العظام تبدأ أولاً بالتشكل قبل العضلات التي لا تلبث أن تبدأ بالتشكل بعد بدء العظام عملية تشكلها. ثم يتلازم ويستمر التشكلان معاً وتتشكل العضلات في أماكن تشكلها فيما يُعرف في علم التشريح بـ"منشأ العضلة" الذي يكون على العظم نفسه. وفي ذلك تفسير لاستخدام البيان الإلهي حرف الفاء في قوله تعالى "فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً".

من كل ما سبق فإن البيان الإلهي الذي يصف تتالي تطور الجهاز العظمي العضلي بأسلوب بلاغي موجز لم يخرج عما وصل إليه العلم اليوم.
فصدق الله، وكذب قلم الشربجي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد