تجربة ميلغرام أو المصير الحتمي

لفهم طبيعة تصرف الجنود ومقاتلي الميليشيات المتوحشة قام العديد من الباحثين بتجارب واختبارات عديدة، كان أبرزها تجربة عالم النفس الاجتماعي ستانلي ميلغرام سنة 1663، سُميت باختبار ميلغرام، كان الهدف منها تحديداً هو معرفة مدى استعداد الناس للانصياع لأوامر السلطة من خلال تنفيذ ما يتناقض مع ضمائرهم، وما إذا كان منفّذو المجازر في الحروب والصراعات لهم خلفية إجرامية،

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/12 الساعة 04:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/12 الساعة 04:31 بتوقيت غرينتش

قد نسلّم بوجود الحروب والصراعات في مكان ما من الكرة الأرضية، وقد نتقبل مشاهد الدمار والقتل التي تحدث نتيجة القصف الجوي والأرضي والبحري، وقد نسلّم بسقوط أبرياء في مناطق الاشتباك وساحات المواجهة المباشرة، لكننا لا نستطيع تجاهل مشاعر الألم والغضب والحسرة التي تنتابنا من خلال مشاهد القتل الجماعي التي لا تستثني الأطفال أو الحوامل أو العجزة، وحالات الاغتصاب والإهانة والتجويع والتعذيب الهمجي في المعتقلات وأماكن الاحتجاز، أو حالات التهجير الجماعي لملايين البشر نحو أماكن غير آمنة.

السؤال الملحّ الذي يطرح نفسه باستمرار هو: هل كل الجنود وقادتهم ومرافقيهم لهم خلفية إجرامية؟ أو يعانون من اختلالات نفسية تجعلهم يفقدون الإحساس بالشفقة والتعاطف حتى مع أطفال يشبهون أطفالهم الذين يحملون صورهم في محافظ بنادقهم؟ ما يثير الاستغراب فعلاً هو أن أغلب الجنود في الحروب المدمرة لهم أسر وعائلات وأطفال وزوجات وآباء وأمهات يحبونهم ويشتاقون إليهم ويهرعون لمعانقتهم فور انتهاء فترات دوامهم ومهامهم. ولهم روابط عاطفية قوية وليسوا كمقاتلي إسبرطة الذين كانوا يُنتزعون من أحضان أمهاتهم ليرموا في ساحات التدريب القاسية جداً.

لفهم طبيعة تصرف الجنود ومقاتلي الميليشيات المتوحشة قام العديد من الباحثين بتجارب واختبارات عديدة، كان أبرزها تجربة عالم النفس الاجتماعي ستانلي ميلغرام سنة 1663، سُميت باختبار ميلغرام، كان الهدف منها تحديداً هو معرفة مدى استعداد الناس للانصياع لأوامر السلطة من خلال تنفيذ ما يتناقض مع ضمائرهم، وما إذا كان منفّذو المجازر في الحروب والصراعات لهم خلفية إجرامية، أو بمعنى آخر معرفة كمية الألم التي يكون الناس العاديون على استعداد لإنزالها بشخص آخر بريء تماماً حين تكون العملية هي وظيفتهم.

المتطوعون في اختبار ميلغرام كانت أعمارهم تتراوح بين 24 و60 سنة وشهاداتهم بين الثانوية والدكتوراه، اختيروا عن طريق قرعة وهمية وتم إخبارهم بأن الهدف من التجربة هو معرفة دور العقاب في التعلّم، يلعب المشاركون فيها دور المعلم فيما يلعب دور المتعلم شخص آخر مجهول -هو في واقع الأمر ممثل- يجلسون في غرفتين متجاورتين يفصل بينهما جدار ومكبرا صوت؛ ليسمع كل منهما الآخر، كان على كل متطوع أن يطرح سؤالاً من بين العديد من الأسئلة المعدة سلفاً، وفي كل مرة يفشل فيها المتعلم الافتراضي في الجواب يكون المعلم المتطوع ملزماً بعقابه عن طريق إحداث صعقة كهربائية بالضغط على أحد الأزرار، وتذكيره بقوة الصعقة الموالية.

كانت قوة الصعقات تتراوح بين 50 فولت و450 فولت القاتلة، وكان بإمكان المشارك سماع صرخات المتعلم وتوسلاته، أغلب المتطوعين عبروا عن رغبتهم في إنهاء التجربة في مرحلة ما، لكنهم يستأنفون ذلك بمجرد سماعهم لعبارات تأمرهم بالمواصلة، كان يلقيها عليهم رجل من فريق العمل بنبرة الآمر، وقليل منهم مَن أصر على التوقف.

النتيجة كانت صادمة وغير متوقعة، 67 بالمائة من المشاركين أكملوا التجربة رغم معرفتهم لمعاناة المتعلم الافتراضي وعلمهم بأن المرحلة الأخيرة من العقاب بصعقة كهربائية بقوة 450 فولت تكون قاتلة، في حين أن التوقعات المسبقة لنتائج الاختبار كانت تشير لاحتمال ألا يكمل التجربة أكثر من شخص واحد، نتيجة لم يستسغها المتخصصون بسرعة وأقيمت بعدها تجارب كثيرة مماثلة في جامعات أخرى ولم تأتِ بنتائج مختلفة.

بعد اختبار ميلغرام ونتائج كل الدراسات التي تناولت التاريخ الإجرامي للجنس البشري، والتي تشير كلها إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يميل إلى إلحاق الأذى بكائنات من نفس جنسه دون أي سبب معقول، يمكننا أن نتفهم كيف ينسى البشر كل الفظاعات التي ارتكبت عبر التاريخ، جرائم إبادة منذ حضارات الآشوريين والإسبرطيين والمقدونيين إلى فظاعات وجرائم الاستعمار والنازية والبوسنة ورواندا وفيتنام، وما يحدث الآن في الدول العربية، وكل ما يحدث في الدول ذات الأنظمة الاستبدادية التي تعتقل وتقتل وتعذب معارضيها وراء الأسوار.

يبقى السؤال الكبير هو أين دور كل المؤسسات والهيئات الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية في منع حدوث المجازر أو التصدي لها بشكل استباقي للحد من أعداد الضحايا ومحاكمة المسؤولين عنها بغض النظر عن رتبهم وتوجهاتهم السياسية؟ ثم أين دور العلماء والمثقفين في التصدي للخطاب التحريضي الذي تمارسه وسائل الإعلام الموجهة والداعمة للأنظمة والقيادات والميليشيات في مختلف بقاع العالم، والذي لا يقل خطورة عما يقترفه الجنود في الميدان؟ كي نتجنب المصير الحتمي المتمثل في الدمار الشامل، فقد أصبحنا نعيش في عالم غير مستقر وغير آمن في ظل مخاطر عابرة للقارات وأصبح من الصعب التكهن بالمستقبل النقدي أو المادي أو السياسي لأي دولة أو منظمة أو قطاع اقتصادي، وبالتالي فالتحدي بات كبيراً؛ حيث أصبح من الصعب على أي حكومة أو كيان أن يضمن الاستقرار والأمن بمعزل عن بقية العالم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد