بأقل من 140 حرفاً، ترك دونالد ترامب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي فاقد القدرة على النطق.
السيناتور بوب كوركر (جمهوري من تينيسي)، لم يستطع إخفاء ذهوله عندما أخبره مراسل في الكابيتول هيل (الكونغرس) بأن ترامب اتهم قطر، الحليفة المقربة من الولايات المتحدة، في تغريدة على موقع تويتر، بأنها دولة راعية للإرهاب. فسأل كوركر متعجباً: "الرئيس؟!" بنبرة منخفضة.
لم يَبدُ أن كوركر صدّق الأمر حتى أراه المراسلُ تغريدات ترامب على هاتفه الجوال. حتى بعد أن رأى التغريدات، فإن كوركر الذي كان مرشحاً لشغل منصب وزير الخارجية والذي يرى ضرورة تعزيز التقليد الأميركي في العمل مع حلفاء أميركا من دول الخليج- لم يصدر عنه إلا لحظات صمت بدا كأنها ستطول إلى الأبد، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وأشار التقرير إلى أنه منذ أن شغل ترامب منصبه في يناير/كانون الثاني 2017، صدم المراقبين بالداخل الأميركي وفي الخارج، باستهتاره بمبادئ السياسة الخارجية الأميركية ونظرته غير المعهودة للعلاقات مع الأعداء والحلفاء على السواء. ولكن الأسابيع الأخيرة أكدت، حتى وَفقاً للبعض داخل حزبه، التداعيات المحتملة لخطاب الرئيس المفاجئ والتحولات المفاجئة في سياسته.
وكان وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، استغرب تصريح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الجمعة، الذي طالب فيه قطر بوقف تمويل الإرهاب، محاكياً تصريحات المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر التي اتهمت فيها الدوحة بدعم الإرهاب، وقطعت بناءً عليها العلاقات مع قطر.
ونقلت "سي إن إن عربي" عن الوزير القطري قوله: "من المستغرب أن يكون تصريح الرئيس مبنياً على آراء رؤساء دول لهم مواقف سياسية معروفة من قطر، ودائماً يستخدمون الإرهاب كذريعة لأغراضهم السياسية، سواءً كانوا دولاً أو أفراداً. فهي أسهل ترويجاً وتلقى تعاطفاً أكبر لدى الغرب. وكانت هذه رغبتهم، أن يكون هناك تعاطف معهم في الغرب ضد دولة قطر.. عبر اتهام دولة قطر وقذف الاتهامات بأنها تتبنى وتدعم الإرهاب".
انشقاقات دبلوماسية واسعة
وأسفرت الأسابيع القليلة الماضية وحدها عن عدد من الانشقاقات الدبلوماسية، وفقاً لما ذكرته "الغارديان".
فقد رفض ترامب، خلال زيارته الخارجية الأولى بصفته رئيساً، أن يؤكد التزام الولايات المتحدة بالمادة 5 من معاهدة حلف الناتو -مبدأ الدفاع الجماعي- وتجاهل مطالبات الحلفاء فى قمة مجموعة السبعة فى صقلية بعدم الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ عند عودته إلى واشنطن.
ثم ردّ على الهجوم الإرهابي الذي وقع على جسر لندن بتغريدات هجومية على عمدة المدينة صادق خان، مُخطِئاً في الاقتباس عنه؛ وخاض في نزاع مشحون بين دول الخليج، مُثْنِياً على قرار السعودية بعزل قطر التي تضم جيشاً أميركياً كبيراً وقاعدة قوامها 10 آلاف جندي.
وقال جيف فليك، وهو من الجمهوريين في ولاية أريزونا وعضو بلجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ: "لقد قلت عدة مرات: ستكون المهمة سهلةً علينا لو لم يكن ترامب يغرد كثيراً. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، سيكون لذلك عواقب وخيمة".
وبينما يحرص رؤساء الدول على التعامل مع تويتر بشكل رسمي وبعناية، فإن ترامب يرى في تويتر منبراً يمكن أن يقول عبره أي شيء وفِي أي وقت من دون تفكير في الأغلب أو استراتيجية.
وسبق أن ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن أعضاء في فريق ترامب يريدون أن يقلل بشدة من تغريداته وقلقون من عواقبها.
وبلغ الأمر إلى حد أن الرئيس التنفيذي لشركة أبل، تيّم كوك، مازح طلبة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قائلاً: "قمتم، على ما يبدو، بالاستيلاء على حساب الرئيس بتويتر".
وأضاف مثيراً ضحك الحشد: "أستطيع القول إن طلاب المعهد وراء ذلك؛ لأن معظم التغريدات تنشر في الثالثة صباحاً"، في إشارة إلى غرابة سلوك ترامب على تويتر وغرابة توقيتاته، وفقاً لموقع "Buzzfeed" الأميركي.
من جانبها، أشارت "الغارديان" إلى أن مجموعة من السياسيين، من مختلف الأطياف السياسية، وجهوا موجةً من التوبيخ إلى انتقادات ترامب العلنية لخان، التي جاءت بعد أقل من 24 ساعة على هجوم 3 أشخاص يحملون السكاكين قتلوا 8 وأصابوا عشرات آخرين بجروح، في لندن الأسبوع الماضي.
استغل ترامب هذه الواقعة للدفاع عن تصريحه المثير للجدل الذي حظر فيه سفر اللاجئين والمهاجرين من العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة، قبل أن يصُبّ سَيلَه من التغريدات على خان، وهو أول عمدة مسلم لمدينة كبرى في أوروبا الغربية.
كتب ترامب في 5 يونيو/حزيران 2017، مُحَرِّفاً تصريحاتِ عُمدةِ بلديةِ لندن إلى مواطني لندن بأنه لا ينبغي لهم أن يزعجهم انتشارُ الشرطة المعزز في أعقاب الحادث، قائلاً في تغريدته: "عُذر مُثير للشفقة من قِبَل عُمدة لندن، صادق خان، الذي كان عليه أن يفكر سريعاً في بيانه الذي قال فيه [لا مَدعاةَ للقلق]".
كان السيناتور جون ماكين، وهو صوت جمهوري بارز في السياسة الخارجية، قد انزعج انزعاجاً واضحاً عندما سألته "الغارديان": ما الرسالة التي أرسلها ترامب إلى المملكة المتحدة، وهي أحد حلفاء أميركا الأكثر ديمومة.
فجاء رده كالتالي: "ماذا في رأيك تكون الرسالة؟ الرسالة هي أن أميركا لا تريد القيادة"، في حين أضاف إلى بقية العالم: "هم ليسوا متأكدين من القيادة الأميركية، سواء أكان ذلك في سيبيريا أم في القارة القطبية الجنوبية".
هل كان أوباما أفضل؟
ورداً على سؤال: هل كان موقف الولايات المتحدة على المسرح العالمي أفضل في ظل باراك أوباما؟ قال ماكين، وهو ناقد متحمس للسياسة الخارجية للإدارة السابقة: "فيما يتعلق بالقيادة الأميركية، نعم".
اعتبر المدافعون عن ترامب نهجه الحر تجاه السياسة الخارجية على أنه نتاج السذاجة السياسية وعلى النحو المتبَع في شعار حملة ترامب الانتخابية "أميركا أولاً".
لكن دانيال تشيروت، أستاذ الدراسات الدولية في جامعة واشنطن، قال إن تصرفات ترامب تشير إلى "انسحاب الولايات المتحدة من دورها في العالم".
وأضاف أن شعار "أميركا أولاً" قد يكون شعاراً جذاباً، ولكنه لا يعني شيئاً عمليّاً.
ويتابع تشيروت: "يبدو الشعار كأن الرؤساء السابقين لم يضعوا أميركا في أولوياتهم، فبالطبع وضعوا جميعاً أميركا في أول اعتباراتهم، لكنهم رأوا دور أميركا في العالم جزءاً أساسيّاً من الأمن السياسي والاقتصادي والاستراتيجي لأميركا".
وقبل التراجع عن المساحة التي احتلتها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة على المسرح العالمي، فإن ترامب يمكن أن يكون قريباً مسؤولاً عن إعادة تشكيل جذري لشبكة التحالفات التقليدية. ازداد الاستياء المتزايد من سلوك ترامب الذي لا يمكن التنبؤ به بين قادة العالم الذين بدأوا بالاستجابة والرد على انتقاداته العينية.
في أعقاب أول رحلة خارجية لترامب، والتي شملت بلجيكا وإيطاليا لقمة الناتو ومجموعة السبعة الكبار، أعربت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، عن أسفها لأن الأوروبيين "يجب عليهم أن يتولوا أمرَ أنفسهم"، فيما كان يفسَّر على نطاق واسع بأنها نظرة ثاقبة في علاقة متوترة مع الرئيس الأميركي.
أربك ترامب الحلفاءَ من خلال رفضه الالتزام الصريح باحترام شرط المادة الخامسة من معاهدة الناتو، وهو أنه في حالة حدوث هجوم مسلح ضد واحدة من الدول الأعضاء ينبغي أن يساعد الأعضاء الآخرون الدولة المعتدَى عليها، ووجه ترامب الانتقادات إلى الأعضاء الآخرين بما سماه "تدنّي المدفوعات المزمن" للتحالف الأمني. (خلال مؤتمر صحفي عُقد بعدها بأسبوعين، أكد ترامب أن الولايات المتحدة ملتزمة بالتمسك بالمادة الخامسة، مع الإقرار بدفع دول أخرى للمساهمة أكثر في الدفاع).
ثم واجه ترامب إدانة موحدة من قادة العالم؛ بسبب إلغاء مشاركة أميركا في اتفاق باريس للمناخ، والانضمام إلى سوريا ونيكاراغوا، وهما الدولتان الوحيدتان اللتان لم توقعا على الاتفاق. لعبت إدارة أوباما دوراً أساسياً في التفاوض على الاتفاق الذي وقعته 195 دولة لمواجهة آثار الاحتباس الحرارين من خلال خفض انبعاثات الكربون.
وعلى الرغم من أن ترامب اقترح أنه سيعيد التفاوض على "صفقة أفضل بكثير"، فإن زعماء ألمانيا وفرنسا وإيطاليا رفضوا هذه الفكرة رفضاً قاطعاً.
وقالت ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإيطالي باولو جنتيلوني، في بيان لهم: "إننا نعتقد اعتقاداً راسخاً أن اتفاقية باريس لا يمكن إعادة التفاوض عليها؛ لأنها أداة حيوية لكوكبنا ومجتمعاتنا واقتصاداتنا".
ما حجم شعبيته في أوروبا ؟
إن تصنيفات ترامب للأفضلية في العديد من الدول الأوروبية تقبع في خانة واحدة. وفي استطلاع للرأي أُجري العام الماضي، قال 85٪ من المشاركين في 10 دول بالاتحاد الأوروبي إنهم لا يثقون بترامب. في المقابل، أعرب 77٪ من المستطلَعة آراؤهم عن ثقتهم بأوباما، الذي تجاوزت نسب تأييده في فرنسا وألمانيا 80٪ في نهاية فترة رئاسته.
تم تأكيد شعبية أوباما المستمرة في الانتخابات الفرنسية، حيث سرعان ما أبدى ماكرون تأييدَه للرئيس الأميركي السابق. وفي الوقت نفسه، عبّر ترامب عن تأييده لمرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، ووصفها بأنها "أقوى مرشح"، وكاد يبدي تأييده لها، لكنه لم يفعل، في اللحظة الأخيرة.
وفي انتخابات المملكة المتحدة هذا الأسبوع أيضاً، كانت تيريزا ماي تكافح من أجل السير على خط رفيع على شفا علاقتها مع ترامب وما إذا كانت ستقف أمام الرئيس الأميركي. وفي مؤتمر صحفي عُقِد عقب الهجوم الذي وقع في لندن، واجهت ماي انتقادات؛ لرفضها في عدة مناسبات إدانة تصريحات ترامب حول خان.
فسأل مجموعة من الصحفيين: "ماذا يمكن لدونالد ترامب أن يقول لكي تقومي بانتقاده؟".
لم تعد زعيمة للعالم
وقال بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي السابق لأوباما، إنه من الصعب المبالغة فى تقدير تأثير عدم شعبية ترامب في عملية اتخاذ القرار الاستراتيجي لدى حلفاء الولايات المتحدة.
وأضاف رودس: "إنه يجعل من المستحيل أن يُنظر إلى هذه الدول على أنها تتبع جدول أعماله"، مشيراً إلى التعقيدات المحتملة حول مبادئ أساسية مثل إنفاق دول الناتو على الدفاع، والأزمات الأكبر مثل مكافحة الإرهاب أو الأمراض المُعدية.
ويتابع رودس قائلاً: "من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد معروفة لحلفائنا التقليديين باعتبارها زعيماً عالمياً. في العادة، عندما تتحدث عن قمم مثل الناتو أو مجموعة السبعة الكِبار، فإن الولايات المتحدة تقود جدول الأعمال بكامله. أما الآن، فلسنا فقط لا نفعل ذلك، لكننا أصبحنا على خلاف مع الركائز الرئيسة للسياسة الخارجية الغربية".
لا تتضح للعديد من المراقبين هُويةُ الشخص الذي يقود دفةَ أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في ظل الإدارة الجديدة، هذا إن كان هناك مَن يديرها.
وزير الخارجية ريكس تيلرسون، وعلى الرغم من كونه الدبلوماسي الأعلى في البلاد، فإن ترامب قوّض تصريحاته بشكل روتيني. وهكذا، كان الحال كذلك مع وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، اللذين اعتُبرا جيدين حسب السياسيين من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولكنهما كانا مقيدَين بين التقاليد الأميركية القديمة واسترضاء أهواء رئيس جامح.
وفى يوم الجمعة فحسب، كُشف الخلاف عندما دعا تيلرسون السعودية ومصر والبحرين والإمارات العربية المتحدة إلى وقف حصارها على قطر. حاول تيلرسون التخفيف من تداعيات تصريحات ترامب حول هذا الموضوع، فقال قبل أيام قليلة إنه على قطر أن تبذل المزيد من الجهود لوقف دعمها المالي "للعناصر الإرهابية"، لكنه ركز على ضرورة حل النزاع الذي اعتُبر أنه يؤدي إلى "عرقلة" العمليات العسكرية في المنطقة وقد يؤدي إلى "عواقب إنسانية" غير مقصودة.
وبعد ساعات قليلة، ضاعف ترامب حِدة تغريداته، قائلاً في مؤتمر صحفي إن قطر "كانت على مرّ التاريخ ممولاً للإرهاب على مستوى عالٍ جداً".
ثم أضاف ترامب من مِنصته في حديقة الورود بالبيت الأبيض: "عليهم أن ينهوا هذا التمويل وفكرها المتطرف من حيث التمويل. أريد أن أدعو جميع الدول الأخرى إلى التوقف فوراً. لكني لن أسَمّيَ دولاً أخرى".
كان تيلرسون يجلس في الصف الأمامي.