في غضون 50 سنة تقريباً، تحولت قطر من دولة فقيرة يعيش أهلها على صيد الأسماك إلى إمارة شديدة الثراء، تنتج النفط والغاز، مما أسهم في رفع مستوى ناتجها المحلي الإجمالي بالنسبة لعدد سكانها ليصبح نصيب الفرد من الناتج المحلي بها هو الأعلى في العالم.
وبتاريخ، 5 يونيو/حزيران 2017، أعلن جيران قطر قطعهم العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، ونزل هذا الخبر بمثابة الصاعقة، لأن هذه المقاطعة يمكن أن تعرض مصالح المنطقة للخطر، وتدفعها إلى مواجهة عدة عواقب اقتصادية وخيمة، وفق ما ذكرت صحيفة Les Echos الفرنسية.
الحماية البريطانية
الصحيفة الفرنسية نشرت تقريراً عرضت فيه كيف تحولت قطر من بلد فقير يعتمد على استخراج الصيد واللؤلؤ إلى إمارة شديدة الثراء، وكانت كلمة السر هي الغاز الذي استطاع أمير البلاد السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أن يستغله ويحوِّله لمصدرٍ هائل للثروة، خاصة أن ثروتها النفطية أقل من معظم جيرانها الخليجيين.
يشير التقرير إلى أنه في مطلع سنة 1900، كانت قطر تحكم من قبل عائلة آل ثاني. وبعد مضي سنة، أقرت السلطات البريطانية بشرعية الشيخ عبدالله بن جاسم آل ثاني كحاكم لدولة قطر، قبل أن يوقّع الطرفان على اتفاقية الحماية البريطانية خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1916، وفي نفس الوقت، دخلت هذه الإمبراطورية الاستعمارية في مفاوضات مع باقي دول الخليج العربي، بشأن توقيع اتفاقيات حماية بريطانية.
وفي الإطار ذاته، تعهَّد البريطانيون بتقديم الحماية للقطريين، مقابل التزام قطر بفتح أراضيها أمام لندن.
وفي تلك الفترة، كان عامة الشعب القطري يعيشون على صيد اللؤلؤ والأسماك، وقد عرف الشعب القطري حالة من الفقر المدقع وسوء التغذية، تزامناً مع انهيار تجارة اللؤلؤ سنة 1920.
دولة منتجة للنفط
اكتشف النفط في قطر لأول مرة سنة 1939، تحديداً في مدينة "دخان"، الواقعة على الساحل الغربي لشبه جزيرة قطر. ولكن استغلال هذه الثروة قد تأخر لحدود سنة 1949 نتيجة لما مرَّ به العالم من ويلات، إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ومع حلول سنة 1951، أصبحت قطر تنتج قرابة 46500 برميل نفط يومياً، وتضاعفت عائداتها المالية لتصل إلى حدود 4.2 مليون دولار. ومع ارتفاع عائداتها دخلت قطر مرحلة تحديث البلاد وعصرنة هياكلها ومؤسساتها.
وخلال خمسينات القرن الماضي، شهدت قطر بناء أول مدرسة، ومستشفى، فضلاً عن تشييد محطة توليد الكهرباء ومحطة لتحلية المياه، مع انتشار استعمال الهواتف. وخلال الستينات تواصل ارتفاع عائدات النفط القطرية، كما تواصل معها حكم عائلة آل ثاني.
الاستقلال
نالت قطر استقلالها رسمياً سنة 1971، وقد تزامن ذلك مع تخلي بريطانيا عن التزاماتها العسكرية تجاه المناطق الواقعة شرقي قناة السويس. في هذا الإطار، استغل خليفة بن حمد خروج والده، الأمير أحمد بن علي في رحلة لصيد الصقور في إيران لينتزع منه الحكم. ومباشرة قام بتخفيض مصاريف العائلة المالكة، وراهن على الاستثمار في المشاريع الاجتماعية على غرار السكن، والصحة، والتعليم، والمعاشات.
مغامرة التنقيب عن الغاز
مع حلول سنة 1971، اكتشفت شركة شل للنفط أن الساحل القطري يعتبر أكبر حقل غاز طبيعي في العالم. لكن الأبحاث لم تتواصل في هذا الحقل، بما أن البلاد كانت تنعم في ذلك الوقت بالرخاء المالي المتأتي من عائدات النفط.
ولكن بعد ذلك، وتحديداً خلال ثمانينات القرن الماضي، تضرر الاقتصاد القطري كثيراً نتيجة الأزمة النفطية. وقد أعقب ذلك انقلاب أطاح بالأمير خليفة بن حمد ليحل محله الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني سنة 1995. في الأثناء، عجل الأمير الجديد لقطر في عملية التنقيب عن الغاز في الحقل المكتشف حديثاً من قبل شركة شل. وبحلول شهر ديسمبر/كانون الأول من سنة 1996، صدَّرت قطر أول طلبية للغاز السائل.
وبعد 15 سنة، تم تأسيس 14 محطة للغاز المسال بالشراكة مع شركات نفطية غربية. ومع مرور الوقت، تنوع وازداد عدد زبائن قطر. بالإضافة إلى ذلك، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بسرعة نظراً لاستقرار معدلات إنتاج النفط وتضخم إنتاج الغاز الطبيعي.
سلطة المال
كي تتجنب هيمنة قطاع النفط على باقي القطاعات، اتخذت قطر عدة تدابير لتنويع اقتصادها. وفي هذا الإطار، أسست الحكومة سنة 1998 ما يسمى "بالمدينة التعليمية" في منطقة قريبة من العاصمة الدوحة. وقد ضمَّت هذه المدينة فروعاً لجامعات أميركية وهيئات محلية متخصصة في البحوث والتعليم.
ثم أسست قطر سنة 2003 صندوقها السيادي المختص في إعادة تدوير عائدات النفط والغاز، وأطلقت عليه اسم "جهاز قطر للاستثمار". وبمرور الوقت، أصبح هذا الصندوق المساهم الأكبر في الاستثمارات ضمن شركات عالمية على غرار بنك باركليز، وكريدي سويس، وهارودز، فضلاً عن بورش، وفولكس فاجن، ونادي البي آس جي. كما أضحى جهاز قطر للاستثمار المالك الأول لعدة عقارات موزعة في كل من باريس ولندن.
وفي شأن ذي صلة، لم تتوقف قطر عن مواصلة سياسة الاستحواذ العالمي، حيث عملت على إغراء المستثمرين الأجانب والدخول في منافسة مع باقي مناطق الخليج الغنية مثل إمارة دبي. وخلال سنة 2005، أسست قطر هيئة مركز قطر للمال، ومقرها الدوحة، حيث يختص هذا الكيان بإدارة الأصول والتأمين.
كأس العالم
خلال شهر ديسمبر/كانون الأول سنة 2010، وقع رسمياً تسليم قطر مهام استضافة فعاليات كأس العالم لكرة القدم سنة 2022.
وعدت قطر بتركيز أنظمة تكييف في الملاعب لمقاومة موجات الحر، كما تعهدت برعاية العمال المهاجرين الوافدين إلى ترابها للمشاركة في بناء البنى التحتية الرياضية.
النفط ضد الصدمات
على غرار باقي الدول الخليجية، تضررت قطر من مسألة تراجع أسعار النفط في السوق العالمية. ولكن تنوعها الاقتصادي، الذي لا يرتكز على قطاع واحد فقط، مع ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي، مكَّنها من تسجيل مؤشرات اقتصادية عالية مقارنة بجيرانها الخليجيين. ووفقاً للتقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي، حققت قطر نمواً بنسبة 2.6% سنة 2016، مما أسهم في ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.4%. علاوة على ذلك، تخزن قطر كمية هامة من احتياطي العملات الأجنبية، مما سيساعدها على الحد من العجز في ميزانيتها.
الأزمة الجيوسياسية
هل تستطيع قطر التغلب على الحصار؟
يوم 5 يونيو/حزيران 2017، أعلنت كل من مصر، والسعودية، والإمارات، واليمن، عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة قطر. ومن خلال الإقدام على هذه الخطوة، تطمح هذه الدول إلى دفع قطر إلى العدول عن سياستها "الوديعة" مع حركة الإخوان المسلمين وحماس. كما هددت هذه الدول بعزل قطر عن العالم الخارجي، مما أثار مخاوف من تجويع سكانها.
الحصار الثلاثي من الدول الخليجية المجاورة، السعودية والإمارات والبحرين، برياً وبحرياً وجوياً، تقف أمامه عدة دروع، لعل من أهمها حجم الاحتياطي النقدي، والبدائل الاستيرادية، وصغر حجم التبادل التجاري مع المقاطعين، واعتماد صادراتها على الغاز الذي تصدّره بحراً عبر موانئها، وفقاً لما جاء في موقع الخليج أون لاين.
وحسب تقرير لفرانس 24 تبدو قطر على الأرجح قادرة على تجنب أزمة اقتصادية خانقة، حيث يقدر حجم الأصول في صندوق الثروة السيادي بها بنحو 335 مليار دولار، ولديها فائض تجاري بلغ 2.7 مليار دولار، في أبريل/نيسان، وحده بالإضافة إلى منشآت موانئ واسعة، يمكنها أن تستخدمها بدلاً من حدودها البرية مع السعودية، التي أُغلقت.
وحجم تجارة البضائع بين دول مجلس التعاون الخليجي الست قليل، إذ تعتمد عوضاً عن ذلك على واردات من خارج المنطقة، ومن المتوقع استمرار شحنات الغاز الطبيعي المسال القطري بشكل طبيعي.
وبحسب بيانات البورصة، تشكل السعودية ودول الخليج الأخرى على ما جرت العادة عليه ما بين 5 و10% فقط من التعاملات اليومية في بورصة قطر.
محنة أم منحة
للمدير التنفيذي لشركة "الأمل العالمية للاستثمار"، عبد الله الخاطر، وجهة نظر مختلفة، فهو يؤكد لموقع الخليج أون لاين أن تلك المحنة ستنقلب منحة للبلاد، حيث ستعمد الشركات المحلية، وبالتعاون مع القطاعين الخاص والعام، إلى الإبداع والعمل على إعادة الهيكلة والبحث عن أسواق بديلة؛ لتغطية احتياجات السوق أو الاعتماد على نفسها محلياً، الأمر الذي يحافظ على السيولة داخل حدود الوطن؛ ما يعطي -بحسب الخاطر- دفعة قوية للنمو الاقتصادي في الربع الثالث من العام الحالي.
وبهذا الخصوص، يشير الخاطر إلى أن المتضرر الأساسي من إجراءات بعض الدول الخليجية بحق قطر هي تلك الدول نفسها؛ لخسارتها السوق القطرية الاستهلاكية، ولقدرة الدوحة على إيجاد البدائل الكثيرة.
وبلغة الأرقام، فإن حجم تجارة قطر مع دول العالم يصل إلى نحو 90 مليار دولار تقريباً، في حين تبلغ وارداتها من السعودية والإمارات والبحرين نحو 5 مليارات دولار فقط، وهو رقم صغير بالنسبة للمجموع العام؛ ما يعني أن إيجاد البديل ليس بالمهمة الصعبة؛ بل إنه يجعل الحكومة القطرية تضع خططاً للتعامل مع أي أزمة اقتصادية حالية أو قادمة مهما بلغ حجمها.