آخر سندويتش فلافل في بغداد

قرر الأب بعد أن ابتاع سندويتش الفلافل، أن يأخذ ابنه المريض ويتركه في شوارع بغداد، وبالفعل أعطى لابنه السندويتش وتركه في مكان ما، وقال له: لدي أمر مستعجل سوف أعود! رحل الأب والقلب يعتصره على فلذة كبده، كيف تركه؟! وما الذي سوف يحل به؟!

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/27 الساعة 06:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/27 الساعة 06:31 بتوقيت غرينتش

في الماضي القريب، وضعت الحرْب أوزارها ولملمت أسلحتها ومعداتها التي يعرفها العراقيون، آنذاك بدأت مرحلة جديدة تختلف جذرياً عما سبق؛ كان ذلك بداية تسعينات القرن الماضي عندما كان للعراق جناحان يطير بهما متوهماً النصر في حربٍ دامت 8 سنوات، جعلاه بعد عامين من ذلك النصر يقرر اعتناق حربٍ أُخرى، كان خراجها الأقسى في التاريخ القديم والحديث يوم أن تكالبت علينا 33 دولة.

العصافير تزقزق في الصباح وكأن شيئاً لم يكن! ما بالها حتى العصافير لم تعد تكترث لكل حرب، هي الأخرى اعتادت ما اعتاد أبناء البلد، أليس المثل الشعبي يقول: "من عاشر قوماً أربعين يوماً صار منهم"؟ مع نهاية الحرب، عاد المتحالفون إلى بلدانهم يحتسون كأس النصر في معركة سميت "عاصفة الصحراء"، فيما أطلق عليها العراق "أم المعارك"، عليهم -إذاً وفي كل مرة- أن يدفعوا ثمن فاتورة الحروب ونزوات قادتهم والتي غالباً ما تكون الفاتورة الأغلى ثمناً؛ ضحايا من البشر والحجر وبنى تحتية مهدَّمة وعقوبات اقتصادية أتت على أخضر البلاد ويابسها.

ها قد بدأ الحصار الاقتصادي، وعادت الحياة تنبض على استحياء، كنت آنذاك في الصف الرابع الابتدائي، لم أكن أكترث -مثل جميع أقراني- لصغر سننا أمام ما يحدث؛ بل لم نكن نفقه ما حدث أصلاً؛ كبرنا مع سنوات الحصار وتغير الحال كثيراً. وفي المدارس، أصبح علينا أن نكتب سطراً تحت سطر بعد أن كنا نكتب بين سطرٍ وآخر، لقد اقتربت الأسطر بعضها من بعض تماماً كما اقترب العراقيون بعضهم من بعض.

الدفاتر التي نكتب فيها تغير حالها، خشنة أوراقها كما الأيام، ولخشونتها لا يمضي عليها القلم، أي قلم ذلك الذي يتكسر الرصاص فيه بين حرفٍ وآخر ولا تبريه أية مبراة (المقطاطة)؟! لذلك، كنا نصنع مبراة من أنبوب القلم الجاف ونلصق بها شيفرة المبراة؛ لنقوم بإخراج رصاص القلم. أما الممحاة، فقد كانت لا تمحو الأخطاء كما لا تمحو الأيام من ذاكرتنا ما حدث؛ ربما كُنا بحاجة إلى ممحاة أكبر؛ علّها تمحو فظاعة الكابوس الذي نعيش.

بالعودة إلى المنزل، لا نجد ما لذ وطاب لقد شطب العراقيون من موائدهم اللحوم بمختلف أشكالها وأصنافها ألوانها وحتى منتجات الحيوانات -مثل الحليب والبيض- وكأنها تبخرت!
في تلك السنين القاسية، لم يجد العراقيون شيئاً يؤكل وكان عليهم أن يتقبلوا مفردات ما تعرف بـ"الحصة التموينية"، وما أدراك ما تلك الحصة وما مفرداتها!

التأقلم مع الحياة الجديدة ليس بالأمر السهل، غير أنّ الحروب علّمتنا أن نتعايش مع المآسي وحدنا، تماماً مثلما فعلنا في الحرب العراقية-الإيرانية، أبناء هذا البلد وحدهم من يتجرعون مرارة الحرب والعالم جميعه يتفرج، يصفق تارة ويواسي تارة أخرى، وأحياناً يزيد على نار الحرب حطباً!

المتوافر من الطعام الأساسيات فقط، أما الحلويات فقد أصبحت في خبر كان، كل شيء صار ينتج محلياً؛ التمر تربع على موائدنا ودخل فيما ينتج من حلويات (كرات التمر بالسمسم، أو عجينة التمر أو غيرها من الحلويات التمرية)، لا أحد يأكل الشيكولاتة إلا الأغنياء، ولا أحد يشرب الكوكا كولا أو يأكل الموز، وحده رغيف الخبز يحتاج إلى مجلدات تحكي مأساته، ذلك الخبز الذي تأبى الحيوانات أن تأكله؛ فهو مصنوع أسوأ أنواع الشعير المخلوط بنشارة الخشب أو كل شيء يمكن أن يطحن تجده بذلك الشعير الّذي لا يأكله غير شعبٍ اضطُر لتحمّل مذاق الحرب وتبعاتها!

لا شيء موجوداً غير الأرز المتعفن والسمن والشاي المخلوط بالحنّاء والصابون الذي لا نعرف من أي شيء تمت صناعته؛ إذ إنه لا يترك اليدين إلا متسخة أكثر!

لا أنسى في تلك السنوات العجاف يوم سألت ابنة خالي ذات الـ5 أعوام: هل تعرفين الجوز؟
نظرت الطفلة في أركان المطبخ، تبحث عن شيء تعتقد أنه الجوز، وأخيراً وجدت ضالتها حين وقعت عينها على ما ظنت أنه الجواب الشافي، قالت وبكل ثقة: الجوز هو سقف المطبخ!

مرت 5 سنوات على الحصار الاقتصادي، لم يكن التيار الكهربائي بأفضل من باقي الخدمات المتهالكة، ولكن في عام 1995 وما بعدها كانت الكهرباء تنقطع أغلب ساعات الليل والنهار، لم تكن هناك ثقافة أجهزة توليد الطاقة الكهربائية المعروفة محلياً بـ"المولدات الأهلية" والتي ما زالت تعمل حتى الآن؛ نتيجة مؤامرة انقطاع الكهرباء المستمر منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. الشموع.. الفوانيس.. اللألأة.. اللمبات والقناديل التي تعمل على النفط جزء من يوميات العراقيين، كيف لا وما هو البديل غير تلك الوسائل البدائية التي تسببت في موت الكثيرين نتيجة الحرق بتلك الوسائل؟! رغم ذلك ليس ثمة حل غير التعايش مع هذا الواقع.

ومع استمرار سنوات الحصار استنفد الناس جميع ما عندهم؛ البعض باع أثاثه، والبعض الآخر باع بيته، وآخرون باعوا أعضاءً من أجسادهم، وآخرون لم يجدوا حلاً غير التخلي عن أبنائهم، لا يمكنني أبداً نسيان قصة ذلك الرجل الذي لم يجد ما يطعم به أطفاله، وخاصة طفله المريض فقرر أن يتخلى عنه بطريقة أشبه بالدراما، لكن الاختلاف أن ما حدث كان حقيقة على أرض بلاد الخيرات والثروات.

قرر الأب بعد أن ابتاع سندويتش الفلافل، أن يأخذ ابنه المريض ويتركه في شوارع بغداد، وبالفعل أعطى لابنه السندويتش وتركه في مكان ما، وقال له: لدي أمر مستعجل سوف أعود! رحل الأب والقلب يعتصره على فلذة كبده، كيف تركه؟! وما الذي سوف يحل به؟!
بقي الأب يرقب من بعيد حتى يرى من يأخذه، كانت تلك أشبه بالنظرات الأخيرة، لكنها لشخص لم يفقد حياته بعد.

كانت الدقائق تمر سريعة على الأب وهو يراقب ابنه الصغير ذا الـ4 أعوام، أخذ الطفل يأكل "سندويتش الفلافل"، ودموعه تنزل ببراءة وخوف، كان الطفل يطالع وجوه المارة علّ والده يكون من بينهم، لم يستطع الأب المسكين تحمّل ذلك المشهد ولم يأت أحد لأخذ ابنه من الشارع، الناس كانت بالكاد تجد قوت يومها، انكسر قلب الأب وعاد ليصطحب ابنه، ذلك الطفل الذي بحاجة إلى عناية كثيرة وأموال أكثر ولم يكن لدى الأب غير ثمن سندويتش الفلافل!

ربما ما يمر به العراق الآن أسوأ بكثير من سنوات الحصار الاقتصادي، لكن ما دونته أعلاه ليس إلا غيض من فيض ما لم يعرفه العالم عن حقبةٍ عاشها العراقيون.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد