العجوز المنتحرة ليست بريجيت ماكرون

صورةُ المرأة العجوز وتجاعيدُ وجهها شاهدة على تاريخ من التضحية والصبر ونُكران الذات ومُصارعة الواقع ومُقارعة سنوات الزمن العجاف، كل تجعيدة على وجهها تختزلُ عالماً كاملاً بكل حكاياته وأحداثه وأحزانه، بكل عثراته ونكساته، بدت بنظراتها الحزينة وعينيها المغرورقتين بالدموع المحصورتين بالضياع، وكأن سكاكين حادة تُقطعُ أوصال قلب كل من يراها على هذا الحال إرباً إرباً دون رحمة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/22 الساعة 01:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/22 الساعة 01:52 بتوقيت غرينتش

اهتزت مدينةُ الرباط مؤخراً على وقع حادث مُؤلم؛ حيث أقدمت عجوز في أرذل العمُر على محاولة الانتحار بعد أن تسلقت عموداً كهربائياً وأرادت إلقاء نفسها منه، ورغم أن الحادث لم ينته دراماتيكياً بتنفيذ العجوز لتهديداتها، وتمكن عناصر الوقاية المدنية بعد ساعات طويلة من الشد والجذب من إنقاذها وثنيها عن ذلك، وإقناعها بتلبية كل طلباتها، فإن الحادث خلف استياءً عارماً وتأثراً بالغاً من الحاضرين في عين المكان، كما أبدى رواد العالم الافتراضي وصفحات التواصل الاجتماعي تعاطفهم الشديد مع المرأة العجوز.

صورتُها المعبرة وهي تُعانق العمود الكهربائي رُبما لم تجد من دُونه حُضناً دافئاً يحتويها، ولا أذناً صاغية تُنصت لمُعاناتها ومشاكلها المُزرية، أماطت اللثام عن واقع مر يعيشُه أقرانُها من الطاعنين في السن، ممن أفنوا أعمارهم على هذه الأرض لم يُفارقوها لحظةً واحدة، مُتشبثين بها تشبث الرضيع بأُمه رغم المعاناة، لم تطأ أقدامُهم أرضاً سواها، ولم تتمرغ أيديهم المُتشققة في تربة غير تُربتها، أو استنشقت رئاتُهم قبلُ هواءً غير هوائها، يحفرون بأظافرهم في الصخور والجبال تحت أشعة الشمس الحارقة في سبيل إعلاء رايتها، ويأكلون من الأزبال المُلقاة على أرصفة الشوارع حتى لا يمُوتوا جوعاً ويُفارقوا جوارها، بل ويبيتون في العراء، مُلتحفين بالظلام غير آبهين بالبرد القارس ما داموا تحت سمائها الدافئة في أسمى مواقف الوفاء والانتماء تجاه أرضهم العامرة.

صورةُ المرأة العجوز وتجاعيدُ وجهها شاهدة على تاريخ من التضحية والصبر ونُكران الذات ومُصارعة الواقع ومُقارعة سنوات الزمن العجاف، كل تجعيدة على وجهها تختزلُ عالماً كاملاً بكل حكاياته وأحداثه وأحزانه، بكل عثراته ونكساته، بدت بنظراتها الحزينة وعينيها المغرورقتين بالدموع المحصورتين بالضياع، وكأن سكاكين حادة تُقطعُ أوصال قلب كل من يراها على هذا الحال إرباً إرباً دون رحمة.

هي ليست بريجيت ماكرون حتى تعيش في بلادها معززةً بكرامتها، تملك قوت يومها، عفيفة لا تسأل الناس إلحافاً، هي ليست بريجيت ماكرون حتى لا تُقذف وحيدةً في دُور العجزة تنتظرُ الموت على مهل، بئيسة مريضة، يأتيها الزائرون بعطايا الشفقة بعد أن تخلى عنها بلدُها قبل عائلتها، ولم تجد المسكينة من يُعيلها على نوائب الزمن.

هي ليست بريجيت ماكرون حتى تُخفي تجاعيدها بماكياج من النوع الرفيع، أو تُغير ملابسها الرثة بأخرى أنيقة تقتنيها من محلات الشانزليزيه الفاخرة، هي ليست بريجيت ماكرون حتى تشهد تجاعيدُها على حياة حُبلى بالمطالعة واللقاءات والنهل من منابع العُلوم واللغات والثقافات الإنسانية من كل حدب وصوب، هي ليست بريجيت ماكرون حتى تحكي تجاعيدُها قصص المغامرات والرحلات إلى كل أنحاء العالم، براً وبحراً وجواً، تُمتعُ ناظريها بما أنعم الله على الإنسان من جمال الطبيعة ومناظرها.

هي ليست بريجيت ماكرون حتى تتشابك أصابعُها مع أصابع رئيس فرنسا أو تنسج معه قصة حُب مثالية تتجاوزُ معايير السن والمظاهر الخداعة.

هي ليست بريجيت ماكرون حتى يدعُوها رجُل فرنسا الأول وهي في أرذل العمُر إلى سهرة عشاء مع موسيقى هادئة تسمع على نغماتها كلمات العشق والغزل.
هي ليست بريجيت ماكرون.. حتى لا تنتحر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد