هذه الجمعية التركية لا تسبح مع التيار، فبعيداً عن الصخب السياسي اختارت مشروعها الهادئ والمهم، وهي تحرز فيه نجاحاً.. والمشروع هو إبقاء الأقصى نابضاً بالحياة والمصلين، ودعم المرابطين في القدس المحتلة ومساجدها بالمال والمحامين والمقاولين وحتى السائحين.. أما وسيلتها الأنجع لتحقيق هذا الهدف، فهي الاستناد إلى الحق التاريخي والقانوني "العثماني" في القدس.
الجمعية أنشئت في 2008 واسمها MiRASIMIZ، الذي يعني بالعربية "ميراثنا".. التقينا رئيس مجلس إدارتها محمد ديميرجي، وبعربية فصيحة حكى لنا عن التجربة، قال:
نعمل في مسارين:
الأول: بث الوعي، حيث نسعى لترسيخ حب "الأقصى" في قلوب الأتراك داخل تركيا وفي أوروبا، عبر الكتب والبوسترات والفعاليات ومحاضرات المدارس وبرنامج تلفزيوني أسبوعي.
والثاني: تعزيز صمود المقدسيين، عبر تنفيذ مشاريع داخل القدس لدعمهم وللحفاظ على المقدّسات الإسلامية هناك.
يتابع: "حتى الآن، رممنا 46 مسجداً، تكلفة الواحد تتراوح بين 50 ألفاً و500 ألف يورو، كما رممنا نحو 70 منزلاً مقدسياً -كلها "عثمانية قديمة"- بتكلفة لا تقل عن 30 ألف يورو للمنزل الواحد.
لا نهتم بالمنشآت فحسب، نهتم بالبشر كذلك في القدس، فنحن نمول نحو 450 عائلة مقدسية؛ حتى تتمكن من مواجهة غلاء المعيشة في المدينة التاريخية، فـ86% من أهل القدس تحت خط الفقر الذي يبلغ هناك 2000 دولار شهرياً، لتكون واحدة من أغلى المدن في العالم. نقدم أيضاً في كل رمضان 100 ألف وجبة إفطار للصائمين في المسجد الأقصى".
منزل السيدة حياة
بعض الحكايات التي واجهت "ميراثنا" خلال نشاطها بالقدس لا تخلو من الغرابة والدراما، يروي لنا ديمرجي: "منذ فترة، راسلتنا مقدسية سبعينية تُدعى (حياة تفاحة)، تطلب منا ترميم منزلها الذي تبلغ مساحته 40 متراً مربعاً فطلبنا منها إرسال صور للمنزل، وحين رأيناه اكتشفنا أن معالمه اختفت تقريباً، وصار أشبه بمخزن أو مستودع. أرسلنا مندوباً فأخبرنا بأنه لم يستطع الجلوس بالمنزل من شدة سوء الرائحة وارتفاع الرطوبة وانهيار السقف فرممنا المنزل مباشرة".
يضيف: "بعد انتهائنا من الترميم، أطلعتنا السيدة حياة على ورقة مهمة؛ كانت الورقة عرضاً من جماعات يهودية لشراء المنزل بمليونين و300 ألف دولار وأن تسافر إلى أميركا ويوفروا لها إقامة ومنزلاً وعملاً.. كان العرض أن تتغير حياتها بشكل كامل مقابل بيتها المقدسي، فأخبرتهم بالموافقة وأنها على استعداد للذهاب معهم إلى المحكمة في صباح الغد، ولكن شرط أن يأتوا بموافقة من 2 مليار مسلم بالعالم؛ لأنه ليس ملكاً خاصاً لهم وهي ترابط فيه وتحميه لهم منتظرة وصولهم!".
العثمانيون ما زالوا هنا
قادتنا الحكاية الأخيرة إلى سؤال لا يمكن تجاوزه، عن اسم الجمعية اللافت "ميراثنا" بما يحمله من دلالات تعتبر القدس أثراً عثمانياً.. "ديميرجي" من جانبه، لم يُخفِ ذلك البعد التاريخي من توجهات الجمعية ونشاطها:
"هل تعلم أن 70% من آثار مدينة القدس يعود لأصول عثمانية؟!
هناك فوائد قانونية هامة من استحضار تلك الحقيقة؛ فآخر من حكم القدس قبل الانتداب البريطاني هم العثمانيون، والقانون الساري دولياً الآن هو القانون العثماني، فتركيا لها الحق القانوني للتدخل في القدس؛ لأنها الوريث للدولة العثمانية، وكل عملنا الذي نقوم به هو حق الدولة التركية، حتى صكوك الملكية المعمول بها حتى الآن يعود أصلها للعثمانيين، وإن حدث خلاف على ملكية بيت أو غيره يفصل فيه القانون العثماني، والرئيس أردوغان طالب الجهات الرسمية التركية بالتعاون مع المقدسيين الذين يسعون لاستخراج وثائق بيوتهم من الأرشيف العثماني، وهو ما يحدث".
الأوراق العثمانية هي مستند هام للمقدسيين للدخول في معركة قانونية طويلة أو تفاوض مؤلم للحفاظ على بيوتهم أو مساجدهم.. صمت ديميرجي قليلاً ثم أضاف: "نحن نتفاوض على كل المساجد والمنازل إلا المسجد الأقصى؛ لأنه حق إسلامي خالص. كما أقرّت اليونيسكو بأنه حق للمسلمين فقط وليس لليهود علاقة به".
ما كل ما يتمناه المرءُ يدركه
ولكن، هل يخلو الأمر من عراقيل؟ السؤال يطرح نفسه، ولا سيما مع الحماسة التي كان يتحدث بها ديميرجي. يرد قائلاً:
"إسرائيل تحاول عرقلة أعمالنا دوماً، وأي عمل من أي مؤسسة تُقدم خدمات للمسجد الأقصى، وفي ظل وجود (قانون مصادرة أملاك الغائبين) الإسرائيلي فإنها تستولي على أملاك الغائبين وتبيعها".
يتابع: "بعض المساجد التي بيعت حوّلوها إلى مطاعم وملاهٍ ليلية، وبعضها إلى متاحف وبعضها مراكز لأحزاب سياسية!".
"نحتاج في كل عمل داخل القدس إلى شراكات مع جمعيات محلية وأحياناً مع شركات، بالإضافة إلى (تيكا)، وهي وكالة التنسيق التركية والتعاون التركي التابعة لرئاسة الوزراء ولها فروع في كل العالم ولها فرع بالقدس، وهي تقدم الدعم المالي في بعض الأحيان وتحاول تيسير بعض الأوراق التي تعرقلها الحكومة الإسرائيلية، وفي آخر الأمر لا تستطيع إسرائيل في معظم الأحيان إلا الخضوع؛ لأننا نعمل عملاً نظامياً رسمياً".
لم يخفِ ضيقه وهو يضيف: "هناك أكثر من مليار ونصف المليار دولار سنوياً تجمعها 3000 جمعية يهودية من أنحاء العالم لتهويد القدس، بينما ما يصل من مسلمي العالم كله لا يتخطى 20 مليون دولار سنوياً!. هذا تحدٍّ كبير؛ لأن الفارق واسع جداً".
الطريق إلى إنقاذ حبات الرمان
الفارق الضخم في التمويل الذي أشار إليه "ديميرجي" رئيس الجمعية (يمين الصورة – ويافوس صوفي يسارها) يبدو التعامل معه مستحيلاً، لكنه شرع يشرح لـ"عربي بوست" كيف يُنظم دعم المشاريع المقدسية لمحاولة سد تلك الفجوة الهائلة: "من خلال حث المواطنين على زيارة المسجد الأقصى كما صرّح الرئيس أردوغان"، مؤخراً، في الملتقى الدولي لأوقاف القدس، حيث دعا مسلمي العالم ومواطني بلده للتعبير عن دعمهم للنضال الفسلطيني، وأكّد "أن كل يوم تكون فيه القدس تحت الاحتلال هو إهانة لنا".
ويضيف "ديميرجي" أنه في عام 2014 زار القدس أكثر من 600 ألف أميركي و26 ألف تركي فقط، ليس من أجل السياحة، ولكن من أجل التعرف على مقدّسات وشراء منتجات المقدسيين والجلوس في فنادقهم ودعمهم بكل الوسائل، وشراء مستلزمات البناء من خلال شركات المقدسيين حتى لو كان السعر مرتفعاً، هناك ضريبة يدفعها المقدسيون للاحتلال كل شهر تسمى "الأرنونة" وهي 150 دولاراً عن كل متر مربع، هناك متجر عبارة عن متر مربع واحد يبيع مياه شرب وحبات رمان، فهذا إذا لم يُدعم بالشراء منه فلن يستطيع أن يعيش.
رسالة أخيرة
يختم ديميرجي حديثه برسالة قال فيها إن من الأهمية الالتفات إليها: "أقول لكل المسلمين: اذهبوا لزيارة القدس إن استطعتم، وادعموا أهلها وساعدوهم على مواصلة العيش، كونوا نزلاء في فنادق المسلمين هناك، واشتروا من محلات المسلمين، حتى جولتكم بالمدينة اجعلوا دليلكم فيها مقدسياً مسلماً، بهذا نستطيع أن ندعم المدينة وأهلها ضد محاولات التهويد الدؤوبة".