النصيب، كم من بيوت هُدمت بسبب تلك الكلمة، بيوت لم تقم أصلاً بسببها، وظائف خسرناها، وأموال فقدناها بسبب تلك الكلمة الملعونة.. النصيب، شماعة القدر التي أصبح المسلمون يعلقون عليها فشلهم وكسلهم كل يوم بل كل لحظة.
ولا أدري إن كان كل شيء نصيباً كما يدَّعون فعلى ماذا سيحاسبون؟! وهل من كمال الإيمان أن نؤمن بأن الله سبحانه يتدخل في كل صغيرة وكبيرة؟! وهل إذا ما اعتقدنا أن الله لا يتدخل يعني ذلك الكفر به أو التقليل من شأنه أم أن العكس هو الصحيح؟!
كيفية مخاطبة الخالق (المطلق) للمخلوق (النسبي) هو سؤال محوري أجابت عنه الديانات والفلسفات بأشكال مختلفة، فمنهم من جعل هناك اتصالاً دائماً وحلولاً مستمرة، إما في شخص أو شعب أو مؤسسة، ومنهم مَن جعل هناك انفصالاً كاملاً وذلك موقف الملاحدة بمختلف أنواعهم، أو أن هناك تواصلاً يُبقي المسافات قائمة عن طريق الكلمات -التي لا يصلح تفسيرها بشكل حرفي- التي يُبلغها الرسل، وهم ليسوا إلا بشراً يُوحي إليهم، ويتضح أن هناك موقفاً وسطاً بين قطبين متطرفين.
ومن أعجب ما انتشر حالياً مما يسميه البعض رسائل ربانية، فتجده يبحث في كومة أوراق عن آيات قرآنية مكتوبة سلفاً ثم يقوم بسحب ورقة منها ليعلم ماذا يريد الله أن يخبره! وكأننا نقامر بآيات الله! أو يكتب أحدهم منشوراً على صفحته لكل راغب في معرفة رسالة الله له أن يضع تعليقاً ثم يقوم صاحب المنشور بالرد عليه بآية ما من القرآن وأنت وحظك!
فضلاً عن تطلع الإنسان المسلم للدعاء والاستخارة، دون تفكر أو تدبر، ودون أن يكون أهلاً للدعاء ولا أهلاً للاستخارة، وكأن الدعاء والاستخارة مفاهيم سحرية ستعمل من تلقاء نفسها!
فتلك أدعية لجلب الرزق وتلك لجلب الحبيب وتلك أدعية كي ينصرنا الله على الظالمين.. إلخ!
فكل ما عليك فعله أن تفكر بشكل خاطئ، وتتخذ قرارات بلهاء، ثم تلقي ذلك على شماعة القدر والنصيب والاستخارة والدعاء، فتجد نفسك وقد تزوجت من لا يصلح لك، وقد تركت وظيفتك، وقد خسرت مالك.. إلخ من مجريات حياتنا اليومية ثم تعلق ذلك على شماعة القدر والنصيب!
وتزداد محاولات إلغاء المسافة بين الخالق والمخلوق حتى تتلاشى تماماً إلى أن يصبح الإله مجرد صوت داخلي يسمعه الإنسان الفرد، أي أن التماهي بين الخالق والمخلوق يصبح كاملاً.
فكم من عيوب في تفكيرنا ومشاعرنا وسلوكياتنا والتي لا نقوم بإصلاحها ونكتفي بالتعلق بآمال النصيب وشماعة القدر!
ثقوب سوداء تبتلع حياتنا، مثل الزواج الذي نستخدم فيه كل أنواع التأويلات الممكنة وغير الممكنة حتى تلك التي لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بموضوع الزواج مثل "الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ" مروراً بمجريات حياتنا، انتهاءً بواقع الأمة السياسي والاقتصادي والعسكري، فيصبح تخلف المسلمين هو ابتلاء! ويصبح الرضوخ للأمر الواقع من الإيمان! على الرغم أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف [حديث شريف].
مثل ذلك "إن اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ" والتي فهمها البعض على أن الحاكم الفاسد مثلاً عندما يقوم بعمل ما مشروع فإن الله حتماً سيتدخل ليفسده!
في حين أن المعنى واضح ولا يحتاج لتلك التأويلات العجيبة، فالفاسد سيقوم بعمل فاسد؛ لأنه شخص مُفسد، ولن يتدخل الله لإصلاح عمل فاسد، فتلك الآية تقر عدم التدخل وليس العكس، ولا يعني ذلك أن الشخص الفاسد لن يقوم بعمل أي شيء طيب، وإذا قام به سيثاب عليه ففى النهاية (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فنحن بشر ولسنا ملائكة ولا شياطين، والإنسان ينسى،
فالخطيئة غير ملتصقة بالإنسان وذلك هو التصور الإسلامي للخطيئة، والذي يختلف عن الرؤية المسيحية التي يبدو أنها انتشرت في الأوساط الإسلامية، التي تعتبر أن البشرية كلها آثمة بسبب الخطيئة الأولى التي أصبحت لصيقة بالطبيعة البشرية ذاتها، ولذا أصبح الخلاص مستحيلاً من خلال الفعل الإنساني، ولذا يحتاج الإنسان لتدخل مباشر من الإله في حياته، ولعل لهذا السبب كان لا بد من التجسد، ذلك التجسد الذي يتحول الإله فيه إلى مجرد صوت داخلي للإنسان كما أشرنا، فهو يتحرك بناءً على وحي يأتيه في صورة أوراق مكتوبة سلفاً أو أغانٍ أو عبارات مكتوبة على لافتات المحلات أو حتى على ظهر الأتوبيسات أو على صفحات التواصل أو عبر الأحلام التي يصبح تفسيرها طريقاً لمعرفة رسائل الله! أو أي وسيلة أخرى ولعل من أكثر الوسائل العجيبة تلك التي يقوم فيها الشخص بفتح المصحف على أي صفحة وينظر على الجانب الأيمن تحديداً على أي آية تقع عينه عليها فيعلم رأي الله فيما يشغل باله!
هناك بون شاسع بين ما هو مطلق وما هو نسبي، ولا يمكن أن تكون حياتنا التي ينبغي أن تكون مجال الحرية الإنسانية، أي مجال الإخفاق، والنجاح، والتجربة، والخطأ، والانتصار، والانكسار، لا يمكن أن تتحول إلى نموذج حرفي للمطلق وتدخلاته المباشرة.
إن الله وضع سنناً وأرسل رسلاً بالبينات كي لا يضل الإنسان ولا يشقى، وأعطاه دليلاً إرشادياً لتقويم حياته كي لا يتبع هواه فيضل عن سواء السبيل، ثم أنذره بحساب يوم يرث الله الأرض ومَن عليها.
وكي يكون الإنسان خليفة لله في الأرض فعليه أن ينال حريته، ومن دون الحرية فهو لن يكون خليفة أبداً، وبالتالي فالله لا يتدخل في مجريات الحياة وأحداثها، وذلك التصور يختلف بالقطع عن التصور الشائع "صانع الساعات الأعمى"؛ حيث إنهم يؤمنون أن الله خلق الكون ثم تركه يعمل من تلقاء نفسه!
ولكن التصور الإسلامي وإن كان يتقاطع مع هذا المفهوم فإنه يختلف عنه بأننا نؤمن أن الله رحمن رحيم ولا يتركنا، وذلك هو المعنى الحقيقي للدعاء والاستخارة فأنت تطلب السداد والعون، وتدخل الله يأتي لإنقاذك وإرشادك وتوفيقك، ولن يتأتى ذلك إلا إن كنت أهلاً لذلك التدخل على مستويين:
– المستوى الأول، أن تتقي الله "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً" فيُقبل دعاؤك من الأساس.
– والمستوى الثاني أن تكون أديت ما عليك "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى"، "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" وهنا قد يستجاب دعاؤك، وبالفعل يتدخل الله لإرشادك وتصحيح مسار حياتك، وذلك عبر سنن وليس عبر معجزات، والسنن منطقية، أما المعجزات فهي ليست كذلك، فأي خوارق تسقط عليها معنى فأنت غالباً متحيز له بشكل كامن في اللاوعي، وهي لا علاقة لها -لا من قريب ولا من بعيد- بالاستخارة.
فالأمر لا علاقة له بالرسائل الربانية ولا بالتدخل المباشر، إننا نقوم بفعل ذلك هرباً من تحمل المسؤولية ومن العبء الأخلاقي الذي يترافق والمسؤولية، ويزداد كلما زاد حجمها، ونلقي الأمر على عاتق قوة غيبية ما لتتحمل المسؤولية عوضاً عنا؛ لأننا لا نتقبل أن نخطئ وأن نتعلم من أخطائنا.
ونحن لا نعلم ما هو نصيبنا طالما بقيت أرواحنا في أجسادنا، وندرك نصيبنا من هذه الحياة الدنيا في الرمق الأخير منها، حينها فقط يمكننا الجزم بأن ذلك هو النصيب، أما ما عدا ذلك فالأمر يرتبط باختياراتنا وقراراتنا والتعلم من أخطائنا.
وتلك من المفاهيم المغلوطة التي إذا ما تخلصنا منها يصبح هناك أمل في مستقبل أفضل على مستوى الفرد والمجتمع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.