أقبل على دربنا لو كنت حيرانا
أقبل على نبعنا لو كنت ظمآنا
شفاء جرح الليالي في عقيدتنا
وصحوة الروح والتوحيد دعوانا
الله أكبر عند الزحف غايتنا
لا نبتغي غير وجه الله حاشانا
يظهر بانقا خجولاً بين أترابه من الشباب ذوي السحنات السمراء؛ ليبتسم ابتسامة خفيفة يشدو بعدها بكلمات مما سبق، الأغنية لفرقة النمارق السودانية في نهاية ثمانينات القرن الماضي في فترة الديمقراطية الثانية في السودان قبل أن يصعد الإسلاميون إلى الحكم في الخرطوم بانقلاب عسكري في يونيو/حزيران 1989، وفرقة النمارق هي جزء من منظمة نمارق للآداب التي تأسست بعد خطاب لقائد الجبهة الإسلامية في السودان الشيخ حسن الترابي عن علاقة الإسلاميين والفن، تم بعدها تأسيس المنظمة وكانت لها فرقة مسرحية إضافة لمهرجان للفنون؛ لتظهر بعد هذا التاريخ الكثير من فرق الإنشاد الديني التي تعتبر أناشيدها من النوع الرسالي تغني وتنشد مئات الأناشيد؛ لتشجيع الشباب السوداني للالتحاق بمعسكرات التدريب العسكرية أو ما كان يعرف بالخدمة (الإلزامية)، ومنها إلى الجنوب؛ حيث كانت الحرب المشتعلة هناك، الحرب الأهلية في السودان صبغت في سنوات الإنقاذ بصبغة دينية حادة كان وقودها شباب الجامعات وبعض المراهقين، وبسحر وخلف كلمات هذه الأناشيد الرنانة تطوع الآلاف من الشباب فيما يعرف بالدفاع الشعبي، وهي قوات شعبية من المواطنين مسلحة تقود الحرب جنباً إلى جنب مع الجيش السوداني في حرب الجنوب الدائرة حينها.
أنشودة أقبل على دربنا:
ليش ليش ليش يا مجاهد ** ما تتقدم للحور والجنة
زمراً زمراً في جنة زمرا ** خالدين في الجنة
أنشودة فتى أخلاقه مثل:
تلك كانت طبيعة تلك الأناشيد مليئة بوعود الجنة والحور العين، منبئة بذلك الوطن السوداني الإسلامي العروبي الذي كانت تحلم به المجموعة الحاكمة وقتها، فطغت على كل فئات المجتمع تلك الصبغ الإسلاموعروبية فغيرت أسماء الشوارع إلى أسماء شخصيات إسلامية كسرت التماثيل حيناً بدواعي أنها أصنام وفتاوى حرمات التصوير، وأغلقت دور ومعاهد الموسيقى ولم تسمح الحكومة إلا بهذا الإنشاد الديني (الهادف)، أو كما وصف على شاشات التلفزيون الرسمية، فكانت الفرصة الوحيدة للمغنين والموسيقيين هي الانضمام لتلك الفرق.
لم تغنِّ تلك الفرق لمقاتلي الدفاع الشعبي فقط، بل غنت للقضية الفلسطينية وقضايا العرب والإسلاميين بشكل عام، فغنت كلمات القرضاوي (أنا المسلم)، وغنت أيضاً لفدوى طوقان وغيرها من المنشودات باللغة الفصحى.
عمر بانقا ذات الشاب الخجول لم يستمر طويلاً مع فرقة النمارق، فبدأ وأسس مع آخرين في منتصف الثمانينات فرقة (عقد الجلاد) التي تصنف كأكثر الفرق معاداة للحكومة، وأقرب للأحزاب اليسارية في السودان الشيوعي السوداني على الأخص؛ لينشد مرة أخرى، لكن هذه المرة للسلام، ويغني أغاني لمحجوب شريف القائل في إحدى قصائده: "بي تمن طبنجة أحسن الكمنجة"؛ لينقلب الدرب إلى طريق السلام بدل الحرب.
قرابة الـ10 أعوام مضت على اتفاقية السلام الشامل في السودان بين الحركة الشعبية للتحرير والحكومة المركزية، وإن كانت الحرب الأهلية في السودان لم تنتهِ حتى اللحظة، لكن ما زالت تلك الأغاني والأناشيد محفوظة في ذاكرة جيل كامل عاش سنوات الحرب الكئيبة، خصوصاً في منتصف التسعينات، أعمال في أشد سوأتها ورسائلها الدموية يظهر إبداع كبير في إنتاجها، ويظهر كذلك تأثيرها الكبير في الكثير من الشباب، إبداعات تنسب للعقلية السودانية الفذة لا لجهة معينة أو حزب أو قضية، فبين كلمات خالد شقوري وود إبراهيم وإخراج سيف الدين حسن أعمال يجب أن تحفظ للتاريخ لأجيال قادمة، علَّها تتجنب ما وقع فيه من سبقوهم إلى الجرم العظيم.. الحرب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.