القطة السوداء

علمني أهلي أن أحذر في خطواتي، وأن أراقب السائرين من حولي وأنا عائدة، كنت حذرةً إلى أقصى حد، أراقب بتمعنٍ شديد، ولم يكن لي من سلاح سوى قدمي التي كانت مستعدةً للركض في أي لحظة، أحياناً كنت أضع مقصاً في جيب حقيبتي الخارجي قد أحتاجه يوماً، حين يتوجب عليَّ أن أحمي نفسي.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/06 الساعة 01:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/06 الساعة 01:53 بتوقيت غرينتش

ما يتشاءم الناس من القطط السوداء، في المدرسة كانوا يطلقون على تشاؤمهم لفظ التنفير منها، فهم ينكرون الـ"تطير" رغم موقفهم هذا، لم أؤمن يوماً أنني يجب أن أنفر من القطط، بينما كنت أنفر حقاً من عيون الرجال المحمرة في الظهيرة؛ حيث الشوارع شبه خالية، يصادف هذا الوقت وقت انصرافنا من المدرسة، كانت عيونهم محمرة كالشياطين، كما رسمتُ صورة للشياطين في مخيلتي.

علمني أهلي أن أحذر في خطواتي، وأن أراقب السائرين من حولي وأنا عائدة، كنت حذرةً إلى أقصى حد، أراقب بتمعنٍ شديد، ولم يكن لي من سلاح سوى قدمي التي كانت مستعدةً للركض في أي لحظة، أحياناً كنت أضع مقصاً في جيب حقيبتي الخارجي قد أحتاجه يوماً، حين يتوجب عليَّ أن أحمي نفسي.

أسوأ كوابيسي كان عند تأخّر وقت الانصراف وعدم لحاقي بالباص المدرسي، وكنت كبيرةً بما يكفي لأجبر أمي على أخذي من المدرسة، أتذكر تلك القطة السوداء التي كانت تنتظرُ دائماً في مدخل العمارة، أراها كل يومٍ أعود فيه من المدرسة، كنت أحدثها وألقي عليها التحية وتبادلني هي التحية بصوت مواء، أقسم أنني لا أكذب، ظننتُ أحياناً أن روحاً بشرية تتلبسها أو روحاً أخرى غريبة، لكنها لم تؤذِني يوماً، ولم تخِفني أبداً نظراتها، لم نتعلم شيئاً عن الحذر من شياطين الظهيرة، فقط حدثونا عن القطط السوداء.

أنقذتني هذه القطة مرةً عندنا لحقني أحدهم، استجمعتُ قواي لأذهب وأركله، ولكنه فرَّ هارباً قبل أن أفعل وظلت القطة تنظرُ لي بعينين صفراوين وبؤبؤ ضيق بسبب قوة الضوء، كنت قويةً جداً، منذ البداية، عرفت من البداية أن الحذر ينبغي أن يكون من البشر لا من الحيوانات الضعيفة، أدركت منذ وقتٍ طويل، منذ بدأت العودة من المدرسة وحدي في الابتدائية، لم أكن أثق سوى في رجل المرور الذي كان يُمسك يدي ليساعدني في عبور الطريق ولم أثِق في أي عابرٍ غيره، وحين لا أجده أتخذُ الطريق الطويل تجاه كوبري المشاة.

كنت أنتظر فوقه لدقيقة وأبصقُ عبثاًً على العرباتِ الصغيرة تحتي وأركض بسعادةٍ معتبرةً ذلك انتصاراً.

كنت قويةً منذ البداية، منذ أخبرني أبي بأنني الآن فتاةٌ قوية يجب أن تعود من المدرسة وحدها ولا تهتم لأحدٍ يناديها، فلا أحد يستطيع أن يؤذيها طالما هي مؤمنة بذلك، كنت أعود إلى البيت منتصرة، أحكي لأبي وأمي عن مغامرتي في العودة، كيف يبدو الناس مخيفين وقت الظهيرة، ولكن ليس بالنسبة لي، فأنا بطلة كبيرة أستطيع حماية نفسي.

أبي وأمي يقولان إنني أساوي مائة رجل، عندما كنت في الصف الرابع اقتحمت مكان عمل أبي ممسكةً بيد طفلة في الصف الأول، هذه الطفلة تركها أهلها في المدرسة، وهي ضائعة تبكي، تريد العودة لبيتها ولكنها صغيرة جداًً يا أبي ويتوجب عليَّ مساعدتها، لو تركتها ستختطف وتخيلت كم الأشياء الرهيبة التي قد تحصل لهذه الضعيفة.

عشت في مجتمعٍ مغلق، جزء من قدم الطفلة ذات الأربعة عشر عاماً قد يثير شهوة، حين وصلتُ للمرحلة الثانوية كنت أفهم كل إيماءةٍ صغيرة، وكل همسة وراءها غرضٌ جنسي، بل أدركت قبل ذلك، فهمت أنهم يريدون التهام الفتيات، نحن في نظرهم حَمَل صغير جاهز للأكل، وفي المدرسة لم يعلمونا كيف نحمي أنفسنا.

كانوا يقولون إن الفتاة التي تذهب للبقالة بعد المدرسة فتاة فاسدة؛ لأنها تختلط بالرجل الأجنبي في البقالة، وكنت أعاند وأذهب للبقالة التي آمن نظرات بائعها، ازدادت قوتي بسبب أمي وأبي اللذين علماني أنني يجبُ أن آخذ حقي مهما كان الثمن، وأنهما موجودان حين أهرع إليهما، رأيت أمي وهي سيدة قوية ولا يتجرأ أحد على أن يقلل من احترامها كأنثى، ورأيتُ أبي يضرب شخصاًً قد تعدَّى على فتاة.

أبي كبير السن ذو القوة والهيبة لا يقبل أن يتعدى شخصٌ على جسد فتاة، وكنت أيضاًً أضربُ من يحاول ببلاهة أن يثبت أن يده صدمتني بالخطأ، وأعود لأحكي لأمي، ترتدي عباءتها وتقول سأخرج لأقطع رأسه، أثنيها، إنه بعيد يا أمي لا تحاولي، قد حميت نفسي بما فيه الكفاية.

كانت السلطات تجبر الفتيات على وضع غطاء على الوجه كي يحمين أنفسهن، ما هذه السخافة؟!
يركضن وراء الفتيات في الظهيرة ليصرخوا في وجه "المتبرجة" وكأننا سبب إثارة الشهوة! الرجال البدينون ذوو الوجوه المزمجرة واللحى ينظرون بحدة ليروا أي جزء من أجسادنا مكشوفاً!

كنا كالألعاب، وبرغم الغطاء الأسود على أجسادنا كنا كأننا عراةٌ بالنسبة لهم، لم أعرف إلى الآن السبب الذي يجعلهم ينفرون من سواد القطة ولا ينفرون من سواد ثيابنا التي تثير شهوتهم، لم أعرف إلى الآن السبب الذي يجعلهم ينفرون من القطة السوداء ولا ينفرون من الرجال البدناء المزمجرين الذين يتهمون من ظهر طرف رمشها بأنها من أهل النار، أسوادُ الحيوانات عقبة؟ وسواد النفوس شرف؟

تباًً لتلك الذكريات السوداء، بالطبع كانت هناك ذكرياتٌ مبهجة، ولكنني نادمةٌ على كل حرفٍ آمنت به من التعليم الأسود أياً كان، إن تزمتهم جعلني أقوى، تزمتهم لا يجعلنا شرفاء، ولكن يجعل النساء قابعاتٍ في صندوق الحملِ الذي يثير الشهوة، في النهاية كنا كالقطط السوداء، غير أن أحداً لا ينفر منا، نشبهها في القوة والتربص والمواء الذي يطلق على كل مخلبٍ غريبٍ يمتد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد