بين أحضان مدينة نيس الفرنسية الجميلة، يقضي فاتح عامه الثاني في الغربة بعيداً عن أهله وعن أصدقائه المقيمين بواحد من أعتق وأعرق أحياء العاصمة الجزائرية، وهناك يتابع باهتمام بالغ الانتخابات الرئاسية بفرنسا، والمتزامنة مع الانتخابات التشريعية ببلده الجزائر التي يقول بشأنها بعد برهة صمت "..صراحة لا أعرف حتى أسماء المترشحين".
ومرد جهله بالقوائم والمرشحين في سباق بلوغ البرلمان الجزائري المقبل، لا يعزى لكره للسياسة وإنما لـ"التجاهل والقطيعة المتعمدة مع الحدث الانتخابي"، ويشترك في ذلك مع آلاف الشباب الذين يقاسمونه ذات الموقف ونفس الأسباب.
المؤشرات الأولية التي تنبئ بعزوف الجزائريين بنسبة لابأس بها عن الإدلاء بأصواتهم، لدى فئة الشباب، دفعت "عربي بوست" للنزول إلى الشارع لمعرفة دوافع هؤلاء الذين يسمون من قبل رجال السياسة " ثروة الأمة" في الجهر بالنفور من الحملة الانتخابية وعملية الاقتراع.
"الأسماء المذكورة في التقرير غير حقيقية بناء على طلب أصحابها".
نفس الأشخاص بنفس الوعود الكاذبة
في أواخر صيف 2015، توجه فاتح (29 سنة) مثقلاً بحقائبه صوب مطار هواري بومدين الدولي، قاصداً مدينة نيس الفرنسية المطلة على البحر المتوسط وبيده محفظة ووثائق استكمال الدراسات العليا.
كانت الهجرة للدراسة آخر ورقة ألقاها في لعبة شاقة ومجهدة نفسياً وبدنياً "إنها لعبة البحث عن تأمين مستقبل أفضل"، بعدما قضى 4 سنوات كاملة في الجزائر وهو يطرق باب المؤسسات بحثاً عن فرصة عمل دائم تليق بشهادته الجامعية.
غادر فاتح وقبله عشرات الآلاف من الشباب الجزائريين نحو الخارج وفي قلبه غصة من الإحباط والتذمر جراء استحالة تحقيق طموح في تحقيق ظروف حياتية يصبو إليها، وبعد مرور الأيام والشهور ها هو يطل اليوم على بلده وهو في غمرة الحملة الانتخابية تحسباً للانتخابات التشريعية بشعور مليء بالبرودة تجاه الحدث وصانعيه من ممتهني السياسة.
ودون تردد، تفاعل فاتح مع موضوع الانتخابات من خلال سؤال لـ"عربي بوست"، كان كالتالي: كيف تتابع الانتخابات؟ وكان القصد منه انتخابات فرنسا.
بعد صمت لثواني معدودة أجاب بصوت هادئ "صراحة لا أعرف حتى أسماء المرشحين"، ولما عرف أن المستهدف هو السباق نحو قصر الإليزيه استطرد قائلاً "آه.. أوكي طبعاً المنافسة شرسة للغاية بين ماكرون ولوبان".
ويلخص فاتح ما يعتبره حديثاً طويلاً عن أسباب تجاهل الانتخابات التشريعية في الجزائر بالتشديد على عنصر "غياب الثقة بين الشباب على وجه الخصوص والمترشحين من غالبية الأحزاب".
وأوضح المتحدث أن "غياب مناخ الثقة الغائب نابع من رؤية نفس الأسماء في كل مرة تترأس القوائم نعرف جيداً تاريخها وماذا قدمت طيلة سنوات من تصدر المشهد".
وأفاد فاتح بأن استرجاع الثقة لا يتطلب الشيء الكثير، "فلما جاء الوالي الحالي للعاصمة قام بفتح طرقات كانت مغلقة، فتنفست المدينة هو أمر بسيط في الحقيقة وكان يفترض أن يقوم به رئيس البلدية فقط". مضيفاً "أساس الثقة هو عندما تعد يجب أن توفي بالعهد وعندما تقول يجب أن تفعل بل يجب أن تفعل قبل أن تقول في غالب الأحيان".
ويتقاطع مع هذا الرأي، توفيق وهو شاب في الثلاثينات من العمر، ومناضل في حزب بارز، حيث أشار في حديثه لـ"عربي بوست" إلى تدهور الثقة بشكل كبير مع المواطنين خاصة الشباب وقال "عندما نلتقي مع الناس في إطار الحملة الانتخابية يحرجوننا، بأسئلة عديدة مثل لماذا لا نراكم أنتم الشباب على رؤوس القوائم؟ هؤلاء المرشحون نعرفهم منذ سنوات وعدونا وفازوا في الانتخابات وجاؤوا اليوم ليكرروا على مسامعنا نفس الوعود؟".
ولفت توفيق إلى درجة الوعي العالية التي بات عليها الشباب الجزائري بالتأكيد على أن "جيل فيسبوك وتويتر بحاجة إلى خطاب جديد وأشخاص جدد يفهمونهم جيداً".
ويوضح إبراهيم شاب من ولاية جيجل الساحلية (شرق البلاد) يشتغل في الأعمال الحرة بشكل أدق نقطة الثقة بالقول "لقد خبرنا مرشحينا عن هذه الولاية عدة مرات، يأتون إلينا خلال الحملة الانتخابية وعندما يصلون إلى البرلمان لن نراهم أبداً، نلتقي بهم فقط أيام الحملة إنهم يفكرون في مصلحتهم الخاصة".
أصوت ليأخذ 3000 دولار شهرياً؟
حالة النفور من العملية الانتخابية المرتقبة في الرابع مايو/أيار 2017، لدى فئة الشباب لا تتوقف أسبابها عند غياب الثقة واليأس من الوعود الخاوية للمترشحين في كل مرة، ومن بين مسبباتها الدور الذي يؤديه الفائز على مستوى البرلمان.
حيث يقول عادل، شاب لا يعمل متخرج من الجامعة، لـ "عربي بوست" في هذا الصدد "هل أصوّت لشخص يصل إلى البرلمان وينال مرتب 3000 دولار كل شهر، دون أن يقوم بشيء لفائدة من انتخبوه"، موضحاً "ماذا يفعلون؟ يتلون خطابات من ورقة أستطيع قراءتها بشكل أفضل منهم ويرفعون الأيدي للمصادقة على القوانين دون تردد لا أكثر ولا أقل".
واستطرد عادل قائلاً "ليس لدينا سلطة تشريعية قوية، لدينا فيسبوك كأفضل وسيلة للتغيير"، مشيراً إلى أن منصة موقع التواصل الاجتماعي الشهير باتت ملاذاً للتعبير وانتقاد كافة سلطات البلاد وهي تؤتي ثمارها.
وتسبب مواقع التواصل الاجتماعي في عدول السلطات الجزائرية عن عديدة القرارات أبرزها إزالة تماثيل شخصيات بارزة نحتت بشكل سيئ وفتح تحقيق في طريقة عمل مصنع لتركيب السيارات بعد تداول صور والتعليقات عليها.
التغيير يأتي من البرلمان.. مستحيل؟
البحث عن أسباب العزوف لفئة الشباب عن الانتخابات التشريعية المقبلة، قادنا دون جهد بالغ لتحصيل آراء عديدة، فقطيعة فئة واسعة من الجزائريين مع العملية الانتخابية لا تعني ابتعادهم التام عن السياسة وشؤونها، فلكل موقفه وحججه.
ومنهم، عز الدين، أستاذ تاريخ وجغرافيا، أمله الكبير الحصول على تثبيت نهائي في منصب عمله حتى يتخلص من صفة الأستاذ الاحتياطي، والذي يذهب صوب المهمة الأساسية للبرلمان والمتمثلة في التشريع.
وأوضح لـ"عربي بوست"، "غالبية البرلمانيين مفلسون من حيث اقتراح مشاريع القوانين، وكل القوانين المصادق عليها تمر حسب مزاج السلطة التنفيذية ثم يحدثونك عن التغيير".
وتابع عز الدين قائلاً " المقاطعة ليست حلاً لمشاكل البلاد، ولكننا نرى أن السلطة التشريعية ممثلة في البرلمان بغرفتيه مجرد بهرجة لا تؤدي دوراً فعالاً، لا تبادر بالتشريع وكل ما يمر من قوانين هي تلك التي تريدها السلطة".
ولمس توفيق الشاب المناضل هذا الأمر عند نزوله رفقة المرشحين عن حزبه للقيام بالحملة الانتخابية، وأفاد "هناك واعون بمهام البرلمان ويقولون لنا الحكومة من صلاحيات الرئيس، وهي التي تنفذ وتنجز البرامج والمشاريع فما الفائدة من انتخاب أناس ليصلوا إلى البرلمان".
حملة موازية للمقاطعة والتعبير الحضاري
واستثمرت مجموعة من النشطاء السياسيين في حالة العزوف عن الاهتمام بالحملة الانتخابية، للقيام بحملة موازية لدعوة المواطنين لمقاطعة الانتخابات، وجاب هؤلاء عديد الولايات وأقاموا حلقات وتجمعات دون أن يتعرضوا لأذى جسدي أو تضييق على أنشطتهم.
فيما انتقدت الحكومة دعاة المقاطعة، ووصفتهم "بالحرامية" والذين "لا يحبون الخير للبلاد".
وبينما ضبطت الأحزاب المشاركة في عقاربها على ساعة صناديق الرابع مايو/أيار، مازال فاتح بمدينة نيس الفرنسية يتابع باهتمام شديد المعركة الانتخابية بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان، ولا يتردد في إبداء مخاوفه من بلوغ الأخيرة سدة الحكم وما سينجر عن ذلك من عواقب وخيمة على بني جلدته وأمثاله من المهاجرين،
لكنه في المقابل ثابت على موقفه بشأن الانتخابات التشريعية بالجزائر، والتي قرر المشاركة فيها عبر ممارسة واجبه الانتخابي بورقة حيادية، إثباتاً لحسه الوطني وأملاً في أن يصغي الساسة والمرشحون إلى مآخذ الشباب على الانتخابات ويكيفوا ممارستهم للسياسة مع ما يريده الشارع.