“إديا” تدفن في مقبرة “الحكرة”

ترافقني صورتها في كل مكان، أتخيل ابتسامتها ووجعها وهي تتألم تنتظر بعيون طفلة العلاج، أتخيل خوف عائلتها ووقوفهم أمام ردهات المستشفى للانتظار، وجواب الطبيب البارد الذي لا يهمه حالتها، لا يوجد جهاز السكانير في المستشفى؛ لتستمر معاناة الأسرة مع فقر مستشفياتنا وأطبائنا، ويكرر نفس الجواب على مسامعهم، إنه جواب يعرفه المواطن البسيط جيداً: نعتذر ليست لدينا تجهيزات لعلاج إديا، وليس لدينا ما نقدمه لها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/29 الساعة 02:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/29 الساعة 02:38 بتوقيت غرينتش

ترافقني صورتها في كل مكان، أتخيل ابتسامتها ووجعها وهي تتألم تنتظر بعيون طفلة العلاج، أتخيل خوف عائلتها ووقوفهم أمام ردهات المستشفى للانتظار، وجواب الطبيب البارد الذي لا يهمه حالتها، لا يوجد جهاز السكانير في المستشفى؛ لتستمر معاناة الأسرة مع فقر مستشفياتنا وأطبائنا، ويكرر نفس الجواب على مسامعهم، إنه جواب يعرفه المواطن البسيط جيداً: نعتذر ليست لدينا تجهيزات لعلاج إديا، وليس لدينا ما نقدمه لها.

"إديا" اليوم لم تكشف عن واقع مستشفياتنا؛ لأننا نعرف جيداً هذا الواقع وتجرعنا منه الكثير وما زلنا، لقد علمتنا مستشفياتنا أن نتألم في صمت حتى يتفاقم وضعنا الصحي، ويصبح المستشفى شراً لا بد منه، نذهب إليه ونحن ندرك جيداً كم من ساعات سننفق في الانتظار، كيف سنتكبد الاحتقار والمهانة من حارس المستشفى إلى الطبيب، لقد تعلمنا أن نصبر ونحن في عز آلامنا، ونكابر حتى لا يتم إذلالنا في مؤسسات تعتبر أن المريض زبون ينبغي أن يدفع أكثر لكي يتعالج، وأن من حقها أن تستثمر في صحة المريض.

اسألوا أبواب مستشفياتنا عن كم "إديا" لفظت أنفاسها بسبب عجزها عن سداد تسعيرة العلاج، اسألوا بعض الأطباء الذين أضحوا سماسرة يساومون في صحة مريض على الفراش، ويطالبونه قبل علاجه بدفع مبلغ باهظ، اسألوا الطبيب الذي يتجرد من عباءة الإنسانية ويرد بكل وقاحة على أهل المريض: لا يمكننا إجراء العملية لمريضكم، اسألوه عن كيف نجح في كلية الطب دون أن يدرس مادة الإنسانية، اسألوا من ذهب يبحث بين أصدقائه وجيرانه وهو يرجوهم أن يدينوه مبلغاً للعلاج، اسألوا من ليس لديه أهل كيف يمرض وهل يوجد مكان لعلاجه؟ وكيف يعيش وجعه حتى يموت وتقتات الكلاب من جثته؟

اسألوا دموع آباء وأمهات فقدوا فلذات أكبادهم بسبب جشع طبيب وقلة الحيلة، أسئلة كثيرة تطوف في أروقة مستشفياتنا، ولا من يكلف نفسه بالإجابة عنها، لقد اعتدنا على الانصراف عن مواطن الخلل والتعامل مع هذه القضايا بنفس الطريقة، نغضب قليلاً وبعدها نعود إلى حياتنا الطبيعية وتبقى مستشفياتنا على حالها تقدم قرابين أخرى.

وتتكرر حكايات البؤس في وطننا، وأستحضر هنا مقولة الأديب الروسي دوستويفسكي: إن البؤس رذيلة، يستطيع المرء في الفقر أن يظل محافظاً على نبل عواطفه الفطرية، أما في البؤس فلا يستطيع ذلك يوماً، وما من أحد يستطيعه قط، إذا كنت في البؤس فإنك لا تطرد من مجتمع البشر ضرباً بالعصا، بل تطرد منه ضرباً بالمكنسة بغية إذلالك مزيد من الإذلال.

لذلك عندما يكون الدرويش خارج المستشفى العمومي يحلم بأشياء كثيرة، العمل والسكن وعائلة.. هذه حقوقه التي أضحت بالنسبة إليه أحلاماً يصارع كل يوم لتحقيقها، لكن بمجرد أن يدخل إلى المستشفى يتخلى عن هذه الأحلام، ويصبح حلمه الوحيد ألا يزور المستشفى مرة أخرى، وإذا كنت عزيزي القارئ قد زرت يوماً مستشفى عمومياً ستجد جميع المرضى يكررون نفس العبارة، نطلب من الخالق الصحة فقط، فهم يدركون جيداً ماذا ينتظر المريض من سوء معاملة تضاعف من آلامه الصحية وتزيد من بؤسه.

نودع اليوم "إديا" وندفنها في مقبرة ضحايا الحكرة، هناك تلتقي إديا بمحسن فكري ومي فتيحة، ستخبرهم أنها كانت تحلم بوطن يمنحها حقها في الحياة، وبأن تعيش وسط عائلتها تكبر بينهم وتحظى برعايتهم، ستخبرهم بأنها انتظرت كثيراً أمام ردهات المستشفيات وبكت من شدة ألمها ستصف لهم نظرات الطبيب الخالية من مشاعر الإنسانية، ستضحك مي فتيحة بصوت مرتفع وتخبرها: أنت تطلبين الكثير يا "إديا"، فالإنسانية في وطننا مطلب مستحيل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد