رجل من صحابة رسول الله يدخل على خليفة المسلمين حينئذ -عثمان بن عفان رضى الله عنه- فيخبره الخليفة بما لم يكن في حسبانه وبما لا يعلمه إلا الله وهذا الصحابي فقط!
عثمان رضى الله عنه أخبره بما فعله قائلاً: "يدخل عليَّ أحدكم، وأثر الزِّنا ظاهر على عينيه؟!".
كان الصحابي قبل دخوله إلى عثمان، قد رأى امرأة في الطريق فنظر إليها، فأثار كلام الخليفة دهشته ليرد متسائلاً: "أَوَحْيٌ بعد رسول الله؟!". ليجيب عثمان رضى الله عنه: "لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة".
تبصرة! برهان! فراسة!
إجابة حملت في طياتها بعضاً من الأسئلة وهي: كيف يمكن للمرء أن يمتلك الفراسة والبرهان؟
كيف يمكن أن يكون ذا بصيرة؟ كيف يمكن أن يرى بنور الله أو أن يكون من أولي الأبصار، ومن هم أولى الأبصار؟!
لفظ "أولي الأبصار" ذُكر فى الآية 45 من سورة (ص) وارتبط بـ"أولي الأيدي"، وذلك عندما ذكر الله -عز وجل- عباده وأنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ووصفهم بأنهم "أولي الأيدي والأبصار": "وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ" ( سورة ص: 45)
قال علماء التفسير "أولي الأيدي والأبصار"؛ أي: القوة في طاعة الله والقوة في العلم والعمل، و"الأبصار" البصر في الحق.
قالو أيضاً: أُعطوا قوةً في العبادة وبصراً في الدين.
وفى الآية التالية، بينّ الله -عز وجل- سبب وصفهم بـ"أولي الأيدي والأبصار"، فيقول تبارك وتعالى: "إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ".
ذكر ابن عاشور في تفسيره: أي جعلناهم خالصين وطهرنا نفوسهم من العيوب العارضة للبشر، وهذا الإِخلاص هو معنى العصمة اللازمة للنبوءة.
والعصمة: قوة يجعلها الله في نفس النبي تَصْرِفُه عن فعل ما هو في دينه معصية لله تعالى عمداً أو سهواً، وأركان العصمة أربعة والركن الرابع منها: إسناد الإِخلاص إلى الله تعالى؛ لأنه أمر لا يحصل للنفس البشرية إلا بعناية وإلهام من الله تعالى بحيث تنزع من النفس غلبة "الهوى" في كل حال وتُصْرَف النفس إلى الخير الخالص.
فى السورة نفسها -سورة "ص"- وصف الله نبينا داود عليه السلام بأنه "ذا الأيد"، قال تعالى:
"اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [سورة ص: 17-26].
ثم ذكر الله -عز وجل- بعدها قصة الخَصْمَين اللذين تسوَّرا المحراب والتي كانت اختباراً وابتلاءً لسيدنا داود عليه السلام.
ومن عبر ودروس هذه القصة، أن داود -عليه السلام- كان قد قسّم الأيام إلى 3 أقسام: اليوم الأول يحكم بين الناس، واليوم الثاني يجلس مع أهله، واليوم الثالث للعبادة، وكان الناس يحتاجون إليه في يوم عبادته ولا يخرج إليهم.
فأراد الله أن يبتليه ليبين له أن حكمك بين الناس وفصلك بينهم أفضل من تفرّغك للعبادة؛ لأن العبادة نفعها لنفسه، لكن حكمه بين الناس والفصل بينهم وحل مشاكلهم ودعوتهم هو نفع متعدٍّ إلى غيره.
داود -عليه السلام- في هذه القصة اتبع هوى نفسه دون مراد الله منه؛ لهذا كان الابتلاء من الله عز وجل، وهو ما وضحه كلام الله تبارك وتعالى: "يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ".
كلام الله -عز وجل- لم يكن مقتصراً على شخص سيدنا داود ولم يكن موجهاً لفئة معينة كالخليفة "الحاكم" أو للقضاة، ولكنه موجه لكل الناس، لكل بني آدم!
اتباع الهوى دون التفكّر في مراد الله منك ومن سبب خلقك ومن دورك في هذه الدنيا وما أمرك الله به، هو انحراف عن مراد وطريق الله -عز وجل- منك، "الهوى" حتى ولو كان كعبادة سيدنا داود في المحراب!
الفاروق عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- كان أيضاً ذا بصيرة وقوة في الحق وفصل الخطاب وكان يُعرف بفراسته، لكن ما الذي جعله -عمر- لأن يكون قوياً في الحق، قوياً في عبادة الله، قوياً في فصل الخطاب، متفرساً وذا بصيرة؛ الذى جعله كذلك هو "عدم اتباعه هواه"، والدلائل على ذلك كثيرة؛ ومنها:
قوله -صلى الله عليه وسلم- لسيدنا عمر: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ".
قال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: "الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَسْتَطِيلُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِهَوَاهُ، وَعُمَرُ قَمَعَ هَوَاهُ".
كان عمر بن الخطاب -وهو في يَدِه الدنيا- كان يشتهي الشَّهوةَ مِن الطعام ثمنها درهم، فيؤخِّرها سنة؛ ليُثْبِتَ لنفسِهِ بذلك أنَّها نفْس عُمَر!
في حديث الدكتور محمد راتب النابلسي عن اسم الله "الملك"، ذكر تفسيراً ومعنىً مختلفاً لآية
"رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين".
فقال: إن الملك الحقيقي الذي آتاه الله لسيدنا يوسف هو أنه مَلك هواه! ولم يكن مُلك خزائن الأرض؛ لأن ذاك المُلك الذي يؤتيه الله لمن يشاء زائل!
ثم زاد فقال: "مُلك الهوى هو المُلك الحقيقي، الملك الذي لا يزول، الملك الذي تسعد به إلى الأبد، أن تملك نفسك ولا تملكك، أن ينقاد لك هواك ولا تنقاد له، إذا انقاد لك هواك وسيطرت عليه فأنت ملك، إذا سيطرت على نفسك فأنت ملك، إذا ملكت زمام نفسك فأنت ملك، إذا سيطرت على شهواتك فأنت ملك، إذا قدت نفسك إلى طريق الخير والسعادة فأنت ملك، أما إذا قادتك نفسك إلى الضلال والشهوات والمعاصي والآثام فأنت مملوك، إذا قادك عقلك أنت ملك، إذا قادك هواك فأنت مملوك، وشتان بين أن تكون ملكاً وأن تكون مملوكاً!".
أن تملك هواك ذلك يقودك لأن تصبح قوياً في طاعة الله، قوياً في عبادته، قوياً في العمل فيما أرادك الله له فتكون من "أولي الأيدي".
أن تملك هواك وتتحكم فيه، أن تتجرد نفسك من العوائق، فذلك يزيل الله به الغشاوة عن عينيك و يجعل لك نوراً تمشى به، يزيد من بصيرتك، من إدراكك للحق والعمل به، يجعلك من "أولي الأبصار"، يجعلك ترى بنور الله، وعلى قدر تحكمك وملكك لهواك على قدر قوتك وبصيرتك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.