أثارت العملية الإرهابية التي تبناها تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في الشارع الأكثرة شهرة في فرنسا، التكهنات حول الهدف منها وخاصة أنها استهدفت رجال الشرطة الفرنسية.
فالخميس 20 أبريل/نيسان 2017، قام مسلح بإطلاق النار في شارع الشانزليزيه ببارس، العنوان المرموق الذي يتواجد به متجر كارتييه للمجوهرات، وشركة الأزياء الفرنسية المُتخصِّصة لوي فيتون، وملهى الليدو، وحتى متجر ديزني، في الوقت الذي كان الشارع يعج بالسيَّاح الذين يتسوَّقون ويتجوَّلون. لكنَّهم لم يكونوا هدف الرجل الذي ترجَّل من إحدى السيارات وفتح النار بسلاحه الآلي. إذ كان يستهدف الشرطة، وأطلق النار بهدف القتل.
وخلال تبادل إطلاق، قتل شرطي وجُرِح اثنان آخران، إضافةً إلى جرح أحد المارة، بينما جرى "تحييد" المُهاجِم، على حد وصف الشرطة. وأغلقت السلطات المنطقة بأكملها، وتمركز جنودٌ مُسلَّحون جيداً عند مدخل الشارع أمام قوس النصر، وحتى أضواء برج إيفل أومضت في الخلفية لتؤذِن ببداية ساعةٍ جديدة.
وبسبب الصورة المأسوية والمُريعة التي كانت عليها الحادثة، فإنَّ السؤال الذي سيلوح في الأيام والساعات المُقبِلة سيدور حول كيفية تأثير هذه الحادثة على الانتخابات الرئاسية التي قد تُغيِّر تاريخ فرنسا، وأوروبا، وحلف شمال الأطلنطي (الناتو)، الذين يُمثِّلون أهم الحلفاء الدوليين بالنسبة للولايات المتحدة.
وقال جيل كيبل، مؤلِّف كتاب "Terror in France: The Rise of Jihad in the West – الإرهاب في فرنسا: صعود الجهاد في الغرب" إنَّ "ذلك سيكون أمراً كبيراً، لأنَّ السؤال الكبير يدور حول مدى تعزيز تلك الحادثة لمارين لوبان"، بحسب تقرير لموقع "ديلي بيست" الأميركي.
لوبان تتصدر
وكانت زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المُتطرِّف، المناهِضة للهجرة، والاتحاد الأوروبي، والموالية لروسيا، وترامب، هي المُرشَّحة التي تتصدَّر استطلاعات الرأي في الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية التي تجري الأحد والتي يتنافس فيها 11 مُرشَّحاً. وأثارت الحكمة التقليدية ومعظم استطلاعات الرأي التوقُّعات برفض أغلبيةٍ هائلة من الناخبين لتطرُّفها في جولة الإعادة التي ستجري بعد ذلك بأسبوعين. غير أنَّ ذلك لم يَعُد أكيداً بعد الحادثة الإرهابية التي حصلت على تغطيةٍ واسعة.
وكما أشار كيبل وآخرون، فإنَّ هدف الإرهابيين، استناداً إلى الكتابات الأيديولوجية للجهاديين من أمثال أبي مصعب السوري، يتمثَّل في خلق انقساماتٍ عنيفة بين سكان أوروبا، وتأليب المسيحيين، "الصليبيين"، ضد المهاجرين المسلمين وأحفادهم، إلى الحد الذي يتسبَّب في نهاية المطاف في نشوب حربٍ أهلية.
وفي هذا الصدد، ومن وجهة نظر الجهاديين، سيكون فوز لوبان أمراً مرغوباً بشدة. وكان القيام بالحادثة الإرهابية التي بإمكانها أن تُمثِّل نقطة التحوُّل أمراً سهلاً للغاية.
وبحسب مسؤولين فرنسيين، فقد قاد المُهاجِم سيارته بالقرب من واحدةٍ من مركبات الشرطة الكثيرة التي تقوم بدورياتٍ في محيط الشانزليزيه، ثُمَّ ترجَّل وبدأ في إطلاق النار باستخدام بندقيةٍ هجومية، قبل أن تُرديه الشرطة المتواجدة في المكان قتيلاً.
وعادةً ما تُسيَّر دورياتٌ من جنودٍ مُسلَّحين بشكلٍ كامل ويحملون آسلحةً آلية حول المواقع السياحية المهمة في باريس، وذلك نتيجةً لسلسلةٍ من الهجمات الإرهابية التي وقعت في السابق. وهي الهجمات التي تشمل الهجمات التي وقعت على مجلة شارلي إيبدو وأحد متاجر بيع الطعام في يناير/كانون الثاني 201، وكذلك هجوماً متزامناً على مسرح البتاكلان، وأحد الملاعب الرياضية، وبعض مقاهي الرصيف في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، ما أسفر عن مقتل 130 شخصاً. وفي يوليو/تموز الماضي، استخدم رجلٌ في مدينة نيس على ساحل البحر المتوسط شاحنةً ثقيلة لقتل 86 شخصاً وإصابة أكثر من 400 آخرين خلال احتفالات يوم الباستيل.
وحدَّدت السلطات الفرنسية هُوية الرجل المُسلَّح الذي قام بهجوم الشانزليزيه وهو مواطنٌ فرنسي، يبلغ 39 عاماً، من إحدى ضواحي شرق باريس، وكان معروفاً لدى الأجهزة الأمنية. وأُفيد بأنَّه سُجِن قبل ذلك لمهاجمته ضُبَّاط شرطة، غير أنَّ التفاصيل حُجِبَت تماماً نتيجة تواصل عمليات البحث من أجل التوصُّل إلى أدلّة على متواطئين مُحتملين.
وتبنّى تنظيم الدولة الإسلامية الهجوم، وعرَّف المُنفِّذ بأنَّه أبو يوسف البلجيكي، ما يشي بأنَّ داعش، من جهته على الأقل، كان يعتقده بلجيكياً، ويزيد الشكوك حول تورُّط أكثر من جهاديٍ واحد في الهجوم.
استهداف الشرطة الفرنسية
وأصبح استهداف ضُبَّاط الشرطة والجنود، على الرغم من التغطية الأقل نطاقاً لمثل هذه الحوادث مقارنةً ببعض الفجائع الأخرى التي سقطت فيها حصيلةٌ كبيرة من القتلى، سمةً متكرِّرة للهجمات الجهادية في فرنسا، حيث قُتِل قبل شهرٍ واحد رجلٌ يبلغ 39 عاماً يُدعى زيد بن بلقاسم، بينما كان في حالة سُكرٍ وانتشاء، وذلك بعد رفعه سلاحاً عند رأس جنديةٍ في مطار أورلي بباريس.
وجاء الهجوم الذي وقع في مطار أورلي في أعقاب حادثةٍ أخرى وقعت في شهر فبراير/شباط، عندما هاجم رجلٌ يحمل سكيناً جنود حراسةٍ في متحف اللوفر قبل أن يُردى قتيلاً.
وفي يوليو/تموز الماضي، وبعد أقل من عامٍ على الهجمات الإرهابية على المقاهي والمسرح في باريس، قَتَل العروسي عبالة، الذي أعلن ولاءه لداعش، ضابط شرطة رفيعاً مع رفيقته، التي كانت تنتمي أيضاً إلى الشرطة، أمام ابنهما البالغ 3 أعوام في مانيانفيل غربي باريس. ووصف عبالة بعد ذلك جريمته بالتفصيل في بثٍ حي على موقع فيسبوك قبل أن تصل الشرطة إلى المكان وتقتله.
وفي حين يربط معظم الناس في فرنسا الإرهابي أميدي كوليبالي بالهجوم المُرعب على أحد متاجر بيع الأطعمة في يناير/كانون الثاني 2015 بعد فترةٍ وجيزة من هجوم شارلي إيبدو، إلّا أنَّ أولى ضحاياه كانت شرطيةً أرداها في مونروغ جنوبي باريس.
وفي 2012، وفي حوادث قتلٍ عشوائية في جنوب فرنسا، قتل مُسلَّحٌ يُدعى محمد مراح ثلاثة جنود فرنسيين، اثنان منهما مسلمان، قبل أن يهاجم مدرسةً يهودية كان من بين ضحاياها ثلاثة أطفال. وفي نهاية المطاف، حُوصِر مراح وقُتِل، وبالنسبة للبعض، مثَّلت تلك الحادثة فاجعةً فردية.
غير أنَّ كيبل وآخرين يصفونها الآن بأنَّها كانت بداية الانبعاث الجديد للإرهاب الجهادي في فرنسا. ففي الثمانينيات وبداية التسعينيات، وقعت سلسلةٌ من الاغتيالات والهجمات المدعومة من إيران، أو التي نفَّذها مُتشدِّدون سُنّة على صلةٍ بثورةٍ فاشلة في الجزائر، إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة. ويقول كيبل إنَّه بعد سنواتٍ من الهدوء، كانت أجهزة الأمن تشعر بحالة رضا عن الوضع، غير أنَّ ذلك لم يَعُد هو الحال بعد الآن.
وتأتي حادثة إطلاق النار الأخيرة بعد يومٍ من توقيف الشرطة لشابّين يُشتَبَه في تخطيطهما لهجومٍ إرهابي.
وقد اعتُقِلا في مدينة مرسيليا الساحلية الجنوبية، حيث أسفرت عملية بحثٍ لاحقة في إحدى الشقق عن العثور على 3 كيلوجرامات من المُتفجِّرات، وعدة أسلحة، وراية لداعش.
وكما هو الحال بالنسبة للإرهابيين الآخرين الذين قُتِلوا أو اعتُقِلوا في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، كان الشابان قد سُجِنا في السابق. وادُّعِي أنَّ أحدهما، وهو مواطنٌ فرنسي يُدعى كليمان بور، هو جهادي شيشاني، يعتَقَد أنَّه دفع رفيق غرفته السابق إلى التطرُّف، ورفيقه هذا هو محيي الدين مرابط، يبلغ 29 عاماً، والذي سُجِن قبل ذلك لارتكابه عدّة اعتداءاتٍ جنائية صغيرة. وكلاهما الآن قيد الاحتجاز.
وقال وزير الداخلية الفرنسي، ماتياس فيكل، الأربعاء، 20 أبريل/نيسان، إنَّ الشابّين "كانا يعتزمان ارتكاب هجومٍ على الأراضي الفرنسية في وقتٍ قريبٍ للغاية، وبعبارةٍ أخرى، خلال الأيام القليلة المُقبِلة". وبطبيعة الحال تُؤكِّد ترسانتهما من الأسلحة والمُتفجِّرات وحشية نواياهما.
وحتى قبل هجوم الشانزليزيه مساء الخميس، تسبَّب المُعتقَلان في مرسيليا في وضع البلاد على الحافة، وزادا المخاوف بشأن إمكانية استهداف المُتطرِّفين للانتخابات في الأيام الأخيرة من الحملة الدعائية أو خلال عملية التصويت التي ستجري الأحد.
وقال فرانسوا فيون، مُرشَّح حزب الجمهوريين ومؤلِّف كتاب "Defeating Islamic Totalitarianism – هزيمة الشمولية الإسلامية"، إنَّه سيُلغي فعاليات حملته التي كان قد خطَّط لها الجمعة، 21 أبريل/نيسان، نتيجة الحادثة. وحذا باقي المُرشَّحين الرئيسيين، بما في ذلك مارين لوبان، حذوه.
وظلَّت جادّة الشانزليزيه مُغلقةً حتى ساعةٍ متأخرة من مساء الخميس، وأُغلِقت كذلك محطات المترو في المنطقة. وكانت المنطقة النابِضة بالحياة والجاذِبة للسياح في العادة خاليةً بصورةٍ مُوحِشة، إلّا من سيارات الشرطة ومسؤولي إنفاذ القانون. وكانت إحدى المروحيات تُحلِّق على ارتفاعٍ منخفض فوق المنطقة.