ارتأت إحدى زميلاتي المحترمات في العمل ممن ركضن وراء قطار الزواج ولحقن به قبل أن يفوتهن، فيجبرنا على مواصلة الطريق سيراً على الأقدام، أن تنصحني في مسألة الزواج، علّها تقنعني بوجهة نظرها، وكأنها تبشرّ لدين تعبده هي وأكفر به أنا.
كنت أجلس بجانبها في مكان عملنا، وبادرتني بالتحية، ثم اقتربت مني؛ لتسألني عن عمري، صُدمت من الإجابة؛ لاعتقادها أنني أصغر من سنّي، وأطربتني بالسيمفونية المعتادة "ماذا تنتظرين كي تتزوجي؟ سيفوتك القطار"، لم أستطِع أن أجيبها بأنني لا أريد ركوب قطارهم ذاك، لعلي أريد ركوب طائرة أو حمار أو أي وسيلة نقل أخرى! لا أعلم لماذا لم يُسجّل التاريخ أوّل عبقريّ ابتدع جُملة "قطار الزواج"، ولا أعلم أيضاً ما هو المنطق وراء وضع المتزوجين في قطار، وكأنّه ركب من البعير الّذي يمُرّ من قرية إلى أخرى، يُوزّع السّماد ويجمع البهائم.
لم أناقش زميلتي في أسباب عدم زواجي إلى الآن، فقد علمت من أوّل كلمة لي معها أنّها لن تفهم أي شيء ممّا سأقوله لها، واكتفيت بالابتسام في وجهها، وقول "إن شاء الله"، فلا شيء يحدث بغير مشيئته.
أصرّت على مُواصلة الحديث، وانهالت عليّ بنصائحها الذهبية لاصطياد عريس ممّن يطرقون بابي، لم تستطِع الزميلة الموقّرة إمساك لسانها أخيراً، وأخبرتني بأن يجب عليّ أن أتنازل قليلاً كي أظفر بمكاني في قطار الزواج.
كانت تخبرني بأنّ تنازلي عن شروطي في زوج المستقبل ستُضاعف فُرصي في الإمساك به فوجب عليّ أن أقبل بأيّ كان فالرجل لا يعيبه شيء! لا قلبٌ ولا قالب، يكفي أن يكون رجُلاً قادراً على تأدية وظيفته كزوج، وله كُلّ الشُكر والفضل والامتنان على إنقاذه لي من براثن العنوسة المُرعبة.
حدّثتني عرّابة الزواج زميلتي عن تجربتها الشخصية، وكيف أنها تزوّجت بمن هو أقل منها في كل شيء، ولكنّها اعتادت ذلك مع الوقت لما في ذلك من ضرورة لتواصل الحياة.
لم أمتلك الجرأة الكافية لإخبارها بأنّ مُجرّد حديثها عن نقص زوجها هو اعتراف منها بأنّها لم تستطِع تجاوز هذه النقائص فيه، وأنّ ادعاءها بالاعتياد ليس إلا اعترافاً منها أنّها لم تعتده، وليست راضية على حياتها الزوجية معه.
نعم لا يعيب الرجل شيء، ليس لأنه رجل، بل لأنه إنسان يُوضع في نفس الخانة مع المرأة، التي بدورها لا يعيبها شيء لكونها إنسانة أيضاً.
متى التقى روحان كتب الله لهما الحب والانسجام، سيكون الزواج مُيّسراً ببركته، ولكن بوجود تلك الإملاءات الاجتماعية القميئة، فلن ينجح شيء، وأجزم أن أغلب الزيجات في عالمنا العربي تغلي بالمشاكل، ولكنّ أحداً لا يعترف بوجودها علناً مخافة الانفصال.
فالطّلاق بالنسبة لسُكّان هذا المُربّع المُسمّى بالعالم العربيّ هو أكبر المصائب التي لم تسبقها كارثة، ولم تتجاوزها صاعقة، فطلاق المرأة على وجه الخصوص سيجعلها عُرضة لجلد الألسنة المريضة والقلوب السقيمة واستضلالها برجل هو أفضل لها من أن تستظلّ بحائط، كما يقول المثل الأشهر في مجتمعنا.
وهو من الأمثال التي عجزت عن فهمها، أي كيف للإنسان أن يعيش فقط في الظلّ؟! ماذا عن اللواتي يُردن الاستمتاع بالشمس والأنوار؟! ما الجدوى من وجود ظلّ الرّجل إن غابت رُجولته مع امرأته؟!
عزيزتي المتزوّجة الّتي لا ترى في الزّواج سوى رجل تستظلّ تحت جناحه، وكأنّه مأوى للعُجّز، أرجوك احتفظ بنصائحك لنفسك، فالكثيرات ممّن رحم ربّي لسن مستعدّات لتحمّل رجُل متبلّد المشاعر رثّ الطِباع، ثقيل النّفس، مخافة أن تَحمل لقب عزباء أو مُطلّقة، يقول عزّ وجلّ في كتابه الكريم: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً" صدق الله العظيم.
لذلك فقد خلق الله الرجل والمرأة كآية من أجمل آيات تجليات عظمته، التي أراد بها مدّ الإنسان بالمودّة والرّحمة ليتزوّدا بها في رحلتهما في هذه الحياة، رحلة السلام النفسي.
أن ننظر لهذه العلاقة على أنها صراع قائم بين كتلتين فهو خطأ، قد يُحوّل نفسين جُبِلتا على الحُبّ إلى قطبين مُتنافرين، فتتحول الحياة إلى معركة نفسيّة لا تنتهي.
أن ننظر للزّواج على أنّه قطار نركُض وراءه؛ لنبدأ الرحلة فتلك حتماً ستكون نهايتها.
أن ننظر إليه على أنه وجود لرجل وامرأة معاً فهو خطأ فادح سينتهي حتماً بخلق أسرة تعيسة، فالزواج ليس بصفقة مالية ولا ساحة صيد نقتنص فيها الفرص، ولا سوق لبيع السلع الرخيصة التي لم تلقَ رواجاً، بل إنّه رِباطٌ روحيّ بين اثنين يضمن استمرار الحياة بشكل يحفظ الحب والود، ويصون الكرامة والعهد.
ولكن الزواج في بلدنا أصبح خلاصاً لمن لا يملك هدفاً ومساراً لحياته فيلجأ إلى قطار الزواج كتعويض لفشل خطواته على حمله في طريق لم ينجح في اختياره بكامل إرادته ليلجأ إلى تحيين أولوياته لتدوسها تدريجياً عجلات قطار.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.