في ولاية بايرن (بافاريا) في جمهورية ألمانيا الاتحادية يعتمد تدريس مادة التربية الدينية أو مادة "الأخلاق" في المرحلة الابتدائية، وللأهل حق اختيار المادة التي يرغبون بتدريسها لأبنائهم في المدارس.
فالملحدون والعلمانيون وأصحاب الأديان الوضعية كالهندوس والبوذيين وغيرهم يختارون مادة الأخلاق بدلاً من الدين، أما "المؤمنون" فعادةً ما يختارون مادة التربية الدينية.
وللتربية الدينية ثلاثة مناهج تمثل الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية (بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي) والإسلام.. يختار الآباء لأبنائهم كلٌّ بحسب دينه.
لن أناقش هنا "رقي" علمانيتهم وحرية المعتقد المكفولة لكل من يعيش على الأرض الألمانية دستورياً، ولن أتطرق لتجذر كاثوليكية ولاية بافاريا التي تعد ثالث أهم معاقلها في العالم بعد الفاتيكان وبولندا، ولن أحلل استراتيجية الحزب المسيحي الاجتماعي الكاثوليكي المحافظ حتى النخاع، الذي يحكم ولاية بافاريا منفرداً ويسيطر على برلمانها سيطرة مطلقة منذ ما يزيد على الستين عاماً؛ بل سأروي لكم قصةً قصيرة حصلت معي شخصياً:
ابني الأوسط بلال في الصف الرابع الابتدائي، يرتاد مدرسةً حكومية؛ حيث نسكن في مدينة نورنبيرغ وسط ولاية بافاريا، وتبعد مدرسته عن بيتنا حوالي ٢ كلم، اعتاد بلال أن يذهب يومياً إلى المدرسة سيراً على الأقدام، قبل عدة أسابيع كانت الحرارة قد تجاوزت الثماني درجات تحت الصفر، والصقيع في الصباح الباكر يغطي كل شيء، ناهيك عن بقايا الثلوج المتراكمة، خشيت على بلال أن ينزلق خلال ذهابه إلى المدرسة فعرضت عليه أن أوصله بالسيارة هذا اليوم، فبادر إلى قبول عرضي بسعادةٍ بالغة، وأعلم أن سر سعادته هي مرافقته لي وليس إغراء دفء مقاعد السيارة، فهو يعشق الحديث الصباحي معي، وعادةً ما يكون حماسه واضحاً وروح الدعابة لديه حاضرة خلال تجاذبنا أطراف الحديث على طريق المدرسة، لكن في هذا اليوم كان هادئاً يبدو على محياه الضجر، سألته ماذا وراءك؟! فأجابني بتململ اليوم عندي الحصة الأولى "إسلام"!
للوهلة الأولى صعقت من جوابه، ثم تمالكت نفسي وسألته: هل هذا سببٌ للاكتئاب، ثم استطردت مُحاضراً محاضرةً توبيخية وقد أخذتني الحمية، أليس هذا دينك؟! ألا ينبغي أن تكون سعيداً؛ لأنك تتعلم أمور دينك؟! فأجابني مقطباً حاجبيه: بلى.
فسألته: ما المشكلة إذاً؟! زفر بعمق واكتست ملامحه بالجدية مع الامتعاض، ثم قال لي: المشكلة في المعلمة، فهي لئيمة مع الجميع، سريعة الانفعال.. تصرخ بصوتٍ مرتفع، توبخ بشكلٍ جارح بلا سببٍ واضح، تعاقب بقسوة دون أن تنصت أو تتفهم، ثم أطرق برهةً متردداً قبل أن يحسم أمره ليتابع حديثه بنبرةٍ أكثر صرامة: حتى إنها أحياناً تشتم بكلمات بذيئة بلغتها الأم وليس باللغة الألمانية.
سألته مستغرباً وكيف فهمت الشتيمة بلغتها وأنت لا تتحدثها؟! أجاب بأن في الفصل أطفالاً آخرين يتحدثون لغة المعلمة أخبروه أنها شتيمة، قلت له مبرراً: لعلها كانت تمر بظروف عصيبة ذلك اليوم، رد مشككاً بأن هذه حالها منذ بداية العام الدراسي، ثم أضاف وكأنه يطعنني بسكينٍ باردٍ في قلبي: يدرسني المواد الأخرى ٤ معلمات (ألمانيات)، لماذا لا تعاملنا أي منهن المعاملة السيئة التي تعاملنا بها معلمة "الإسلام"؟! جميعنا ننتظر حصصهن بفارغ الصبر ونمرح مع المعلمات خلال الحصص كثيراً إلا مادة الإسلام نكتئب مع بدايتها ونعد الثواني حتى تنقضي!
كم آلمني هذا الحوار، وكم أحسست بثقل المسؤولية الملقاة على كاهل المسلمين في سفارتهم لدينهم، وكم نسيء لديننا بسوء تعاملنا من حيث نعلم أو من حيث لا نعلم.. كم.. وكم.. وكم!
حكومة الولاية الكاثوليكية المحافظة حتى النخاع في دولةٍ علمانية صرفة تؤمن لأبناء المسلمين تدريسهم دينهم في مناهج راقية متوازنة راجعها وأقرها مجلس الإفتاء الأوروبي، وطبعت الحكومة الكتب على نفقتها ووزعتها مجاناً على الطلاب المسلمين، ووظفت معلمة مسلمة تتقاضى راتباً شهرياً يعادل راتب سنة من رواتب المدرسين في بلادنا؛ لتنفر المعلمة "المسلمة" بأخلاقها الطلاب من مادتها وربما من الدين ذاته، في حين تأسر المعلمات الأخريات قلوب طلابهن وتزيدهم تعلقاً بموادهن!
"وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.