ثمن الخيانة

نتيجة لذلك حدث انقلابٌ كبيرٌ في طريقة تفكير الإنسان الغربي؛ إذ نصّب نفسه إلهاً، فأصبح هو مركز الكون، ومحور الوجود، واضعاً العقل في مرتبة عالية، مستمداً منه القيم، ومحدداً الخير والشّر وفق هواه ومصلحته، فكان ذلك سبباً في كثير من المآسي والأحزان، التي ألمّت بالبشرية، من خلال المسوخ التي أنشأها الإنسان على مرِّ العصور، حتّى يثبت جدارته واستحقاقه السيادة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/06 الساعة 01:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/06 الساعة 01:35 بتوقيت غرينتش

خان الإنسانُ الأمانةَ، التي قَبِلَ أن يحملها، بالرغم من ثقلها وصعوبة أدائها؛ لأنه، كما عبّر القرآن الكريم، كان ظالماً لنفسه، جاهلاً بخطورتها وعظمتها "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً"، أدى ذلك إلى إنكار حقيقة وجوده، التي حصرها اللهُ -سبحانه وتعالى- في العبادة "وَمَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لِيَعْبُدُونِ".

تجلت معالم الخيانة عندما ابتعد الإنسان عن الله، وبدأ يشعر بأنّه قادرٌ على تسيير نفسه بنفسه، دون الحاجة إلى خالقه، فأصبح ينظر إلى تلك الأوامر والمحظورات الإلهية على أنّها تحدُّ من حريته، وتقمع اختياراته، ومع مرور الوقت، اتسعت الهوّة بين الله والإنسان، وانكمشت سلطة السماء، وبالتّالي، اتسعت سلطة الأرض، ما جعل نيتشه، الفيلسوف الألماني، يعلن "موت الإله" في صيحته المدوية "اللهُ قد مات".

نتيجة لذلك حدث انقلابٌ كبيرٌ في طريقة تفكير الإنسان الغربي؛ إذ نصّب نفسه إلهاً، فأصبح هو مركز الكون، ومحور الوجود، واضعاً العقل في مرتبة عالية، مستمداً منه القيم، ومحدداً الخير والشّر وفق هواه ومصلحته، فكان ذلك سبباً في كثير من المآسي والأحزان، التي ألمّت بالبشرية، من خلال المسوخ التي أنشأها الإنسان على مرِّ العصور، حتّى يثبت جدارته واستحقاقه السيادة.

هذا ما عبّر عنه "فرانكنشتاين"، بطل رواية ماري شيلي، في اعترافاته الأخيرة، وهو على فراش الموت، يعضّه اللوم والنّدم؛ إذ أقرّ بذنبه العظيم الذي اقترفه في حق نفسه وبني جنسه، فاعترف قائلاً: "إنّ المسخ لا لوم عليه ولا تثريب، بل اللوم يقع على كاهلي وحدي.. ففي نوبة جنون حاد، نازعتُ الله جلّت قدرته في المقدرة التي تفرد بها دون النّاس أجمعين، وخلقتُ حيواناً حياً، وكان ينبغي أن أمهد له سبل السّعادة والرّفاهية.. كان هذا واجبي..".

في المقابل، هناك واجب آخر تجاه الجنس البشري، باعتباري جزءاً منه، فلو سايرتُ المسّخ في طلبه، وخلقتُ له أنثى من جنسه، لكان في ذلك إبادة للجنس البشري، الذي انحدرت منه، وإليه أنتمي.

فرانكنشتاين، في هذا الاعتراف، قام برسم حدود بين قدرة الخالق وقدرات الإنسان، ذلك أنّ الإنسان سيبقى ضعيفاً هشاً وعاجزاً أمام قدرة الله وعلمه، مهما أوتي من علم، وبلغ من قوّة، وبالتّالي، فالإنسان الذي ابتدع مسوخاً، وابتكر أشياء، قد يقف أمامها يوماً مذهولاً وعاجزاً، وقد تكون سبباً في دماره وفنائه.

على هذا الأساس، فإن الغرب الذي ألغى الله من وجدانه وفكره، متباهياً اليوم بذلك، ومعتزاً بعظمة جبروته، وفتوحات علمه؛ إذ أراد محاكاة الخالق في خلقه، ومنازعته في قدرته.. فخلق مسوخاً كثيرة، مسوخاً في غاية القبح أحياناً، وفي غاية الجمال أحياناً أخرى، إلا أنّها تثير الاشمئزاز والغثيان، كلها كان هدفها -ولا يزال- التحرر من القيود الإلهية والطبيعية، مؤديةً، في الوقت ذاته، إلى إفساد حياة الإنسان، وبث الخوف والرّعب في نفسه؛ لأنه يؤدي، باختصار، إلى فقدان المعنى في هذا الوجود.
في لحظة الفرح الحاد هذه، اغتباطاً بالانتصار، وانتشاءً بالفتح الكبير، يجهل الإنسان بأن المسوخ التي أوجدها قد تكون سبباً في دماره وعدمه، كما كان مخلوق فرانكنشتاين سبباً في هلاكه.

تختلف صورة المسخ هذا من عصر إلى آخر، فتارة يتمظهر في هيئة نظام عنصري فاشي شمولي، كالنازية والفاشية، يدّعي امتلاك الحقيقة، وبأنّه يمثل الأقوى والأصلح، وتارة يتخذ شكل نظام إنساني يدعو إلى قيم الحرية والديمقراطية والخير، وهو لا يقوى على سماع صوت آخر إلا صوته، ولا ينتصر إلا لفكرته، ولا يحاجج الآخرين إلا بالقنابل والصواريخ، وتارة أخرى، يظهر في شكل منظمات وجماعات دينية تمارس القتل باسم الله، وتدعو إلى إقامة شرع الله بالقتل والتدمير، كداعش والقاعدة.

المؤكد مما سبق أن المسخ هو تعبير عن الحضارة الغربية، التي أنكرت الله وأزاحت المقدس من حياة الإنسان، المقدس الذي كان يضفي على حياة الإنسان المعنى من وجوده، إذا به يحدد علاقته بالله، وبأخيه الإنسان، وكذا بالطبيعة، ذلك أن إزاحة المقدس أدى إلى "انحسار القيم القديمة مع تراجع الديانة، وتطور الفردانية"، وفي التحليل الأخير "كارثة فلسفية: الفردية، نفي الحقائق، الانجراف مع العقائد المجنونة (كالنازية والفاشية والصّهيونية..)".

كما أن هذا المسخ هو تعبير عن الشّر في الإنسان، ودليل انتصاره على الخير في هذا الوجود، وأيُّ "فكرة تطرح الشّر قبل الخير، أو تقدم الشّر على الخير، إنما تعتبر أصلاً فكرة معبّرة عن الكراهية"؛ لذا لا نستغرب حجم الكراهية الموجودة في عالم اليوم؛ حيث تتجلى في الحروب المشتعلة، وفي الخوف السائد، وفي تلك الدعوات إلى إبادة الآخر أو ترحيله.

ومن ثَمّ، فإن انتشار القتل والدمار والفساد في الأرض، وظهور أوبئة وأمراض فتاكة، تعصف بحياة ملايين النّاس يومياً، وازدياد نسبة الكراهية، واتساع دائرة الخوف من الآخر، بمثابة النتيجة الحتمية لخيانة الإنسان لخالقه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد