عندما ماتت الحمامة

فجأة مرت أمامي الطفلة فى النافذة يتلون وجهها شغفاً وفرحاً بالنظر إلى شرفة مقابلة لبيتها، وبكاء في خلف المشهد لرفض والديها أن تقتني ما أسعدها وفرحة مراهقة بحلم من الطفولة قد عاد دون سابق إنذار فجأة ذهب كل ذلك هباءً.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/03 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/03 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش

أتذكر جيداً في صغري أن يوم الجمعة لم يكن كغيره من الأيام، له طقوس خاصة به لا تمر جمعة إلا وقد طبقت تلك الطقوس؛ صوت المذياع بعد صلاة الفجر بقليل وقد اختلط سواد الليل بقبس من نور الصباح والشمس تنفض عنها مشقة المسير من دول إلى دول، والقمر يستعد لمناوبتها فى الجزء الآخر من الأرض، يشق صوت القارئ الدافئ الهواءَ من حولي ويداعب أذني بلطف ويوقظني للصلاة، وبداية الرحلة الأسبوعية، أو بالأحرى المغامرة الأسبوعية مع أبي فى الخارج وأمي في الداخل، لم يكونا متزمتين فيمنعاني من تجربة الجديد والإخفاق فقط لأتعلم، ربما لم أدرك قيمة هذا الأمر إلا بعدما كبرت، ولكن كان له عظيم الأثر في نفسي تجاهم، حتى أتت جمعة مختلفة لم أفهم فيها لمَ المنع في هذا بالذات، كنت قد تعودت الجلوس إلى جانب نافذة الغرفة التي يسكنها المذياع ربما لدفء صوت الشيخ، أو لأن النافذة كانت كبيرة بشكل كافٍ لسد رغبتي في تأمّل الحي بكل ما فيه كشيء مجرد المباني، الشرفات المغلقة، الشجيرات الصغيرة والكبيرة، القطط، وأخيراً مار واحد أو اثنين إذا صادف، واستغنوا عن الراحة في يوم الإجازة ونزلوا إلى الشارع.

شاهدتها فى ذلك اليوم تقف بلطف على شرفة أحد الجيران، تتحرك بخفة كما لو كان الهواء خِلها وخليلها الأقرب يجاريها فى حركتها امتثالاً لرغبتها فقط، يتدرج لونها الرمادي إلى الأسود وألوان أخرى مشتقة منه يصعب تفريقها، ولكن لا أحد يختلف على أنها تتملك عليك عقلك وقلبك، فترغب أن تضمها إليك في الحال، أو تحبسها بين عينيك لتسري عنك بين الفنية والأخرى، تابعتها ولم أحوّل ناظري عنها أبداً، يكاد قلبي يرقص طرباً وفرحاً كلما قفزت من هنا إلى هنا، ولكنها سرعان ما تركت الشرفة واختفت بين أغصان شجرة مجاورة، حاولت أن أقف على كرسي مرتفع لأراها، ولكن هيهات تشابك الأغصان لم يكن يرأف بشغفي لمراقبتها أبداً.

حزنت قليلاً وتمنيت أن أراها مرةً أخرى، ولكني سرعان ما سألت نفسي لمَ لا أقتني واحدة ما دمت قد شغفت بها وأحببت رؤيتها؟ مؤكد أن قربها أجمل وأحب.

قررت أن أطلب ذلك من والدي وكان الرفض مفاجئاً لي، ولا أنكر أني كنت فتاة مدللة من الجميع لا يرفض لها طلب لحساسيتها الشديدة وتعلقها بالأشياء سريعاً حتى تأخذ حيزاً من حياتها ربما لو فقدته انقلبت حياتها رأساً على عقب، فكان الرفض صاعقاً بالنسبة لي، وأخذت أستفسر عن السبب، فكان جوابهما أن الأمر ليس بتلك السهولة التي أتخيلها، ليست دمية أداعبها وقت فراغي، وإذا مللت أنصرف إلى غيرها، يا ابنتي هي كائن حي يحتاج إلى رعاية وعناية بنظافته ومشربه ومأكله، وليس لدينا ولا لديكِ خبرة للتعامل معها ولا الاستشارة قد تفي بالغرض.

لم يكن الجواب مقنعاً وقتها لطفلة في السادسة ولكنه كغيره من الأمور ستحزنك وقتها بشدة ثم لا تلبث إلا أن تصغر حتى يحل موضعها شغف جديد.

وعندما صرت في الثامنة عشرة أي ثلاثة أضعاف عمري منذ تلك الحادثة فوجئت بأخي يحمل علبة صغيرة يستقر في أحد أركانها فرخ صغير من الحمام كان أشعث الريش أو بالأحرى يمتلك بضع ريشات على رأسه وجناحيه، خالطني وقتها شعور بالفرحة أخذ صوت إسراء الطفلة يتردد مجدداً في داخلي "حمامة يا إسراء حمامة!"، لم يعترِني الفضول من أين جاء بها ولا كيف المهم أنها هنا، سرحت بخيالي عن صحبتها التي بالتأكيد ستغير حياتي وتجلب عليها السرور والدفء، وكيف أنها ستكبر ويصبح لونها تماماً كصاحبتي القديمة، وكيف سأمسح على رأسها وأهدجها لتنام، والكثير الكثير من الخيالات الطفولية التي لا تليق بفتاة على مشارف دخول الجامعة، ثم عدت فجأة إلى أرض الواقع على سؤال أخي: "إنها ترتجف وأظنها جائعة"، إذاً بدأت المغامرة الآن حملت بعض الأقمشة وغلفت بها العلبة الصغيرة والمفاجأة أني خشيت لمس الفرخ، وظل أخي يحركه يمنة ويسرة حتى انتهت من تغليف العلبة كلها ثم ماذا الطعام؟ حسناً، الحبوب وما أكثرها أظنها أكثر ما تأكله الطيور، جئت ببعضها ولم أستطِع لمسها أيضاً وتولى أخي المهمة.

البرد كان قارساً بحق ولا زالت ترتجف والطعام لا أدري إن كان كافياً أم لا، ودخلت فى غضون ساعة أو أقل في دوامة من الأسئلة ماذا أصنع؟ كيف لي أن أدفئها؟ كيف لي أن أعرف إن كانت قد شبعت أم لا تزال جائعة؟ كيف وكيف وكيف؟ حتى تجرأت ومسحت على جسدها الضعيف بإصبعي ومن ثم قررت إطعامها من جديد بيد أخي مرة أخرى ربما سماع رأي الأخت الكبرى كان مطمئناً لنفسه، ولكنه أبداً لا يدري ما يحدث داخل عقلي وقلبي الآن.

بعدها بأقل من ساعة أخذت الحمامة تصدر أنيناً ضعيفاً كأنه غريق يطلب العون، تحرك رأسها بضعف كمن يبحث عن هواء يعيده للحياة، تئن وتئن وتئن علمت حينها أنها تحتضر وأعلم أني لن أقوى على رؤيتها وليس في يدي ما ينقذها، فنهضت مسرعة إلى الداخل غير مبالية بأسئلة أخي المتوالية "ماذا بها؟ أهي جائعة؟ أتشعر بالبرد؟"، وبعدها بدقائق جاءني بكلمة أمقتها أكثر من أي شيء آخر "ماتت!".

فجأة مرت أمامي الطفلة فى النافذة يتلون وجهها شغفاً وفرحاً بالنظر إلى شرفة مقابلة لبيتها، وبكاء في خلف المشهد لرفض والديها أن تقتني ما أسعدها وفرحة مراهقة بحلم من الطفولة قد عاد دون سابق إنذار فجأة ذهب كل ذلك هباءً.

سويعات قليلة رافقتها ورحلت، عندما ماتت علمت حينها أن الحب وحده أحياناً لا يكفي، لم يشفع لي عندما حاولت إنقاذها بمسحة من إصبعي، لم يشفع لى عندما لم أفهم ما شعرت به، لم يشفع لي عندما لم أشعر بشبعها فأطعمتها مزيداً حتى اختنقت، كنت أسرفت في الحب حتى كنت السبب في موتها، ربما لو طلبت الاستشارة قبل أن أطعمها لكانت هنا الآن، أعلم أن كل شيء بقدر ولكن ربما.

تعلمت من وقتها أن أعتدل في مشاعري، أو بالأحرى أحاول، تعلمت أن وراء كل رفض من الآباء حباً من الأعماق على فلذات أكبادهم، أعلم الآن أن ألم الفقد شديد، لن تقوى عليه طفلة في السادسة، وربما كان له عظيم الأثر على حياتها فيما بعد، تعلمت أن أفهم ما أحب وما يحب من أحب، وألا أدع للقلب أسبقية القيادة دائماً؛ لأن ما يخفى عليه أعظم من أن يستوعبه، وكل ذلك عندما ماتت الحمامة!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد