أتذكر جيداً ذلك اليوم الذي مر عليه 20 عاماً حين استيقظت على صرخات أمي (اصحى يا محمد أبوك مش بيردّ).
ذلك اليوم الذي تحولت فيه أمي من امرأة لا تجيد إلا أن تكون ربة منزل لأب وأم بل وصديق في بعض المواقف.
فماذا عساي أن أكتب؟ وماذا عساي أن أسطر ومن أي شاطئ سوف أبحر؟ وإلى أي عمق سأصل؟ وبأي لغة أترجم عظيم ما فعلت أمي بعد موت أبي؟
ولكن دعوني أمتطِ صهوة قلمي العاجز المتهالك لعله يخرجني من خضم هذا البحر متلاطم الأشواق ويعبر بي إلى شاطئ الحب والحنان وبرّ الدفء والأمان معبراً عن بعض ما يكتنزه قلبي، عرفاناً واعترافاً بفضل وحق أمي.
أمي التي كانت وما زالت تقطع سكون الليل بدعواتها المخلصة والصادقة لأبنائها الأربعة، سائلة ربها ألا يريها فيهم مكروهاً، ولا يخذلها في تربيتهم، وأن يعينها على قضاء حوائجهم حتى لا يتسلل يوماً إلى أذهانهم أنهم أيتام الأب.
أمي التي كانت لا تعرف طريق الأسواق، أجبرتها الحياة على أن تتسوق لتدبر متطلبات أطفالها الأربعة، أكبرهم في ذلك الوقت كان لا يتعدى الأحد عشر عاماً.
أمي التي كانت لا تعلم كم يبلغ راتب أبي أجبرتها الأيام على أن تخرج لتقف في طوابير المعاشات؛ لكي تتحصل على بضعة جنيهات تستعين بها على متطلبات الحياة.
أمي التي كانت لا ترى الشمس إلا من نافذة حجرتها وهي تحتسي فنجانها المفضل من الشاي، أحرقت الشمس بشرتها وهي تقف في طوابير الخبز.
أمي التي كانت وما زالت هي الجزيرة اﻵمنة التي نحط أحمالنا عليها عندما تكابدنا الأيام.
أمي التي كانت وما زالت وسادة حريرية ناعمة نضع رأسنا عليها، نبكي آلامنا فتسقط دموعنا على صدرها الحاني، فيهدأ القلب ويعود له اﻷمان.
أمي التي كانت وما زالت هي الوطن لغربتنا، والسماء التي تخيم علينا كما يخيم الطائر بجناحيه على صغاره ليحميهم.
فلو اجتمعت لغات العالم بكل حروفها وفنونها لما استطاعت أن تفي حق أمي أو جزءاً منه أو أن تكافئها على جزيل إحسانها وباذخ عطائها فهل يكافئها يوم؟!
فيا أمي عيدك عندنا كل يومٍ، وحقك علينا عبادة، فأنت وصية رسولنا: أمك، ثم أمك، ثم أمك.
يا أمي، أنت من قضى ربي بالإحسان إليك، وأنت من فضلك رسول ربي على الغزو والجهاد، حين سأله سائل عن الغزو فقال له: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: (فالزمها فإن الجنة عند رجليها).
يا أمي، فوالله ما عرف قدرك إلا الإسلام حين جعل الجنة تحت أقدامك، وجعل النظر إلى وجهك عبادة، وربط حق الله بحقك وشكره بشكرك حين قال "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً".
يا أمي، رغم أنف من أدركك عند الكبر ولم يغفر له، يا أمي لم تتغير نظرتي لقدرك وحبك، ولكن تغيرت قناعاتي بأن حقك لم يوفِّه كل أيام السنة بل وأيام عمري.
لذا عذراً 21 مارس/آذار، فأمي لها عمري، لها خالص حبي وتقديري.
يا أمي، وإن كانوا يظنون أن عيدك هو يوم واحد في العام، فوجودك بجوارنا هو العيد طوال العام.
همسة:
إلى كل من كان له أم أو قريباً منها، فليحمد الله على هذه النعمة أولاً، وليغدق عليها بوافر الحب والعطاء، وليجعلها باباً من أبواب الجنة.
فاللهم احفظ أمي وأمهات المسلمين، وارزقنا برهن ورضاهن، ويا رب ارحم كل أمهات المسلمين وأدخلهن الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.