بعد أن تزوجت بقليل تركت السكن الجامعي وانتقلت لسكن خاص في وسط المدينة، بالقرب من الجامعة، وبعد أن سجَّلت عنواني الجديد لدى البلدية ووضعت اسمي على جرس الباب الخارجي، فوجئت يوماً بمَن يدق جرس الشقة مباشرة.
ذهبت زوجتي ونظرت من ثقب الباب، ولكنها لم تفتح، بل قالت: "هذا لك"، ذهبت للباب وفتحته ففوجئت أمامي بأخ سَلفي ضخم الجثة ذي لحية طويلة فاحمة السواد، وكان يرتدي جلباباً باكستانياً أبيض وبنطلوناً أبيض تحته، خاطبني الرجل باسمي وقال لي بالعربية الفصحى: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أخوكم في الله حسن مشرقي، من أصولٍ مغربيةٍ، لكني أحمل الجنسية الألمانية؛ لأنني متزوج من ألمانية"، فقلت متوجساً: "أهلاً وسهلاً، ولكن كيف دخلت من باب السكن العمومي؟ وكيف عرفت اسمي ورقم شقتي والدور الذي أسكن فيه؟!"، فتجاهل أسئلتي كلها وفتح عينيه، وقال لي: "ألا تسمح لأخيك بالدخول؟!"، فقلت له: "للأسف، ليس لديَّ وقت، وغير مستعد للزيارة"، فقال: "أنا قادم كصديق ومحب وأريد التعرف عليك وأتحدث معك قليلا"، فقلت: "للأسف، لا أريد أصدقاء جدداً، وإذا أردت سأقابلهم بداية خارج البيت، ولن أدعوهم لبيتي إلا عندما تتوطد صداقتنا، والأصلح أن تنصرف الآن وإلا سأطلب لك البوليس حالاً"، فقال بصوت عالٍ مستنكراً: "أوَتطلب البوليس لأخيك المسلم، يا أخي، لا إله إلا الله، أين الأخوة في الله؟ وأين أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم في استقبال الضيوف وعابري السبيل؟ وأين؟.."، وهنا بالضبط فتح الجيران باب شقتهم لينظروا، فأنقذوني دون قصد، فتشجعت وقلت له: "أنت الآن تسببت لأخيك المسلم في فضيحة بين جيرانه الخواجات، والأفضل لك أن تنصرف وإلا سأستدعي البوليس ولديَّ شهود"، الغريب أنه انصرف سريعاً بعد أن كنت قد فقدت الأمل، فحمدت الله، واعتذرت للجيران، ودخلت شقتي.
وبعد ثلاثة أيام بالضبط وفي الموعد نفسه تقريباً رنَّ جرس الشقة نفسه، فذهبت للباب، وعندما سمعت صوت الأخ السلفي نفسه، ومعه أصوات أخرى، نظرت بهدوء من ثقب الباب فوجدته بالفعل ومعه ثلاثة فطاحل آخرون من نفس العينة، الحقيقة خفت ووقفت ساكناً خلف باب الشقة، وأنا أسأل نفسي كيف يدخلون من الباب العمومي للبناية؟ وأشرت لزوجتي أن تصمت، فسمعت أحد الثلاثة الجدد يقول للأول: "أظنه غير موجود"، فيقول الأول: "أشعر به خلف الباب، ندق مرة أخرى وننتظر قليلاً فإذا لم يفتح ننصرف ونأتي فيما بعد مرة أخرى".
وبعد أن انصرفوا اتصلت بالمشرفة في مادة التخصص وحكيت لها الموضوع حتى تعرف، فدهشت للأمر، وقالت إنها ستتصل بمكتب الأمن في البلدية لتخبرهم بالموضوع، وأضافت: "إذا اقتضى الأمر تقديم شكوى رسمية سأذهب معك"، وفي الأسبوع نفسه ذهبت لدروس علم الاجتماع مع المشرف الثاني، وكان أحد طلبة الدكتوراه الألمان يعرض لموضوع الدكتوراه الخاص به عن قوانين اللجوء والاندماج في ألمانيا، وكان سيناقشها في بداية سنة 2000، ولما حانت الفرصة حكيت حكايتي مع السلفي الألماني، فنظر طالب الدكتوراه للأستاذ المشرف علينا، وقال له بالألمانية بالطبع: "هذا أسلوب بتوع حماية الدستور"، فلما هز الأستاذ رأسه بالموافقة قلت "معقولة؟ وإيه صلة هؤلاء السلفيين بجهاز أمن الدولة الألماني؟"، فقال الأستاذ المشرف: "يعملون لديه وإلا كيف يعيشون إذاً؟!". ولما ظهر على وجهي عدم التصديق، قال: "أنا أستاذ في مجال اللجوء والاندماج منذ عشرين سنة وأعرف أن الحالة الإسلامية في ألمانيا مسيطر عليها وتحت المراقبة، ولا يوجد شيخ أو خطيب أو إمام مسجد إلا وله علاقة بجهاز حماية الدستور، لا أريد أن أبالغ ولكن يمكن أن تقول إن أغلب العرب والمسلمين خاصة المتدينين تحت المراقبة الدائمة لجهاز حماية الدستور"، فقلت: "غريب ولكنني لم أشعر قط أنني مراقب"، فقال الأستاذ: "إنهم لا يسيرون خلفك، توجد طرق أخرى"، وقال الزميل: "عدم شعورك بالمراقبة لا يعني أنها غير موجودة، ولكن تعني أنهم على درجة عالية من الاحتراف"، فقلت: "وأين الاحتراف فيما فعله هؤلاء السلفيون؟"، فقال: "لا شك أنك صدمتهم برد فعلك غير المتوقع؛ لأن الشباب العربي دائماً ما تفلح معهم مثل هذه الدخلات الإسلامية، هذا ولا ريب خطأ من السلفي وربما يؤاخذ عليه".
وعندما تيقنت من المعلومات كنت كلما قرأت خبراً عن شباب سلفي يريد تطبيق الشريعة في منطقة ما في ألمانيا وأرى صورهم وأسمع الناس تتعجب كيف لألمانيا أن تترك هذا يحدث على أرضها، كنت أبتسم وأتذكر تمثيليات الملاعين بتوع حماية الدستور.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.