قد يتعجب البعض من صاحبة المناسبة، فعيد الأم للأم وليس للابنة!
بعضنا إن لم يكن معظمنا فقد والدته في سُنة الحياة، فتوفاها الله داعين لها دائماً بالمغفرة وحسن الثواب، فيكون عيد الأم هو يوماً نكثف فيه الدعاء لتلك العظيمة التي رحلت وتركت مكانها شاغراً لا يوجد على الأرض مَن يعوضها أو يماثلها، أو قد يكون يوماً نحاول فيه تقديم التقدير لمن أنجبت وربت وتعبت وتحملت مشقة الحياة لتذليل الحياة لنا بهدية ترضيها وحنان يحتوي تقدم العمر فيها.
ومعظمنا أيضاً يجد ابنته امتداداً لتلك العاطفة التي هي أصل الرحمة والمودة وهي الأمومة، فمنها قد نكون نهلنا ما يشبع قلوبنا الغضة حباً وحناناً، ومنها ما نعتبره فيض رحمة متواصلاً من جيل سابق إلى جيل لاحق من خلالنا، فما أخذناه من أمهاتنا نمرره لأبنائنا، فما بالك بتمريره لبناتنا!
من أمي إلى ابنتي أكون أنا همزة الوصل، أو أكون أنا من أخذت منهما أو قد أكون أنا من أعطت للطرفين، فالحب والمودة والحنان مشاعر لا يكون لها قيمة إلا بالمنح والعطاء وليس بالأخذ فقط، وهناك مفارقة غريبة أن من افتقد للحب والحنان في صغره لوفاة والدته أو أسباب أخرى خارجة عن إرادة الطرفين، يكون هو أكثر شخص قادر على تمرير الحب والحنان لأولاده، بالرغم من أنه لم ينهل ما يشبع مشاعره، لكنه يعطي بقوة ما يفتقد، ويعطي بسخاء ما ضنَّ به الزمان عليه من حب وحنان، فكأنما يعطي لنفسه من خلال ما يعطيه لأبنائه.
مليء عصرنا الحالي بصراع الأجيال بين الوالدين من جهة والأبناء من جهة أخرى، فنجد صراعاً بين طلب مستميت من الوالدين بالعرفان والتقدير يقابله نكران الأبناء وجحودهم غير المبرر، وقد يحتاج الصراع لتقويم نفسي من كليهما حتى يتلاقى الطرفان، وهناك حالات كثيرة لعقوق الوالدين خاصة الأمهات، ولا ننكر أنه يوجد أيضاً إساءة الوالدين للأبناء، في كلتا الحالتين هو وضع شاذ غريب على مجتمعاتنا الشرقية التي يحكم العلاقة بين الوالدين والأبناء عادة الكتب السماوية، سواء المسيحية أو الإسلامية، ففي المسيحية ذكر الله -تعالى- في الإنجيل: "أكرم أباك وأمك؛ لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك" (سفر الخروج 20 :12).
وفي الإسلام يقول الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم: "وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً (24)" سورة الإسراء.
فيحرص الله -سبحانه- دائماً على بر الوالدين في كتبه السماوية، كأنما يحفظ الوالدين برحمته من جحود الأبناء، وقسوة الأيام بمرور العمر وفقد القوة والصحة، واحتلال الجسد الضعف، وكأن الإنسان يعود طفلاً من جديد يحتاج لرعاية وحب وحنان، والأهم يحتاج للرحمة التي هي امتداد من الله الرحمن بعباده.
كم أصبحنا نخاف من مرور الأيام، واستسلام الجسد لسنة الحياة، فنحتاج لرعاية واهتمام ومودة وحنان يحتوي القلب الواهن والعمر الذي قارب على الانتهاء.
ولأن كل أم تعود طفلة مع مرور الزمن، وقد تحتاج كل ما قدمته لابنتها في صغرها؛ نظراً لتقدم العمر لكليهما، كأن الزمان يقوم بدورته لتعطي اليوم ما قد تكون أخذته بالأمس فينعكس الوضع وتصبح الأم ابنة، وتصبح ابنة الأمس أُماً لوالدتها.
ابنتي.. أنت قطعة من لحمي، من دمي، بل أنت قطعة من قلبي، ولأنك امتدادي، الذي في أصله كنت امتداداً لأمي، فأنت أعز لي من نفسي.
لا أتذكر منذ أن أنجبتك أني دعوت لنفسي، فأمنيتي من الله كانت أنت، وحين أنعم الله بك عليَّ أصبح كل دعائي ورجائي لله لك، وأن يمنَّ الله عليكِ بكل الخير والسعادة، بل ربطت بين أن يرضى الله عنكِ حين يرضى عني، وتمنيت أن تصبحي أفضل مني في كل شيء.
أطلب منكِ اليوم أن تعطي ما قد تمنيته أنت مني يوماً وربما لم تجديه، وأن تجودي بالمشاعر لترضي به المولى، وأن تتذكري لي ما ترحميني به في كبري، وتترحمين به عليَّ حين موتي، وأن تتجاوزي لي عما أخفقت أنا فيه، سامحيني إن قصرت حتماً كان رغماً عني، أو جهل منّي، أعذريني إن كنت في شيء قد أغفلت، وتلمسي لي العذر إن كنت يوماً قد قسوت أو أخطأت.
واعلمي أن اهتمام الأم ليس قيوداً، وأن ما من أم تعطي بشروط، وأن حبها ليس له حدود، مهما عانت من جحود، ومهما تمنت من تقدير ولم تجده لكنها لا تضن بل تجود بالعمر والمشاعر والصحة والصبر والصمود، فإنني أعطيتك كل ما أملك ما استبقيت شيئاً، وقدمتك على نفسي، وفضلتك على عمري.
فكوني لي حين أعود ضعيفة كالطفلة، ويعجز عمري عن العطاء، حين أحتاج لمانح رقيق للحب يرحم سني، ويغمرني بالحب، والحنان، وبالاحتواء.
كوني معي على ضعف أيامي، حين أحتاج رشفة حنان، وتقدير، وعرفان، وحين يهجرني في أيامي القاسية الأمان.
كوني حاضرة حين أشارف أنا على الذهاب، فأنت الحضن الذي تمنيت أن أموت أنا فيه بسكينة وسلام.
كوني لي أُماً.. فأنا من دونك أصبح من جديد يتيمة؛ لأنك أمي لكن من رحمي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.