لم يكن الغلاف الجوي لكوكب الأرض يمثل أمام هبوطها أي صعوبة، لقد هبطت تباعاً على شكل حشود متراصفة كأشعة القمر عندما تخترق الغيوم ليلاً، خففت من سرعتها حين اقتربت من المحيط وتوقفت عندما لامست المياه، هدأت تلك المجموعات وكأنها تستريح من سفر قطعت فيه آلاف الفراسخ الفلكية، فهي بعد تجول طويل في المجرة اختارت كوكب الأرض ليكون محطة لها في سفرها الطويل بحثاً عن مبتغاها.
لم يمر زمن طويل حتى غاص بعضها في مياه المحيط، وبحكم امتلاكها للوعي والإرادة عرفت أنها حطت على كوكب يعجّ بالكائنات الحية، وقررت أن ينقسم جزء منها إلى مجموعات استطلاعية تجوب الكوكب خلال فترة قصيرة، فهي مخلوقات ضوئية، والضوء هو المكون الرئيسي لأجسادها الحية.
هي لم تأتِ إلى الأرض بمركبات عملاقة وتكنولوجيا متطورة مع خطة مسبقة لاحتلال الكوكب وتدمير البشرية، لا أبداً، بل كان السلام واضحاً من تكوين أجسادها الطرية والمضيئة، وكأنها رحيق طفولة عذبة خالية من الشوائب والتعقيدات، لكنها كانت تملك صفة غريبة، وهي القدرة على رؤية الزمن ولمسه!
كانت المخلوقات تبحث عن شيء واحد، تبحث عن الغذاء، فهذا ما دفعها لهجر موطنها والتنقل بين المجرات بحثاً عن غذاء يناسب طبيعتها، وفي خلال جولتها على كوكب الأرض استشعرت أمراً غريباً، لقد أدركت أنها وصلت لمصدر مناسب من الغذاء، وباتت تعلم الآن أنها تستطيع التغذي على عواطف البشر، مشاعرهم وأحاسيسهم، من حب وكره، حقد وتسامح، فرح وحزن، وغيرها من المشاعر الإنسانية المتنوعة.
راقبت تلك المخلوقات البشر لفترة، وبعدها فكرت، وتشاورت، ولأنها قادرة على رؤية الزمن ولمسه، قررت أن تجمعه، وفعلاً باشرت العمل من خلال جمع كميات زمنية ضخمة، ثم أعلنت عن نفسها أمام البشرية، وترافق هذا الإعلان مع الترويج لتجارة جديدة ستجتاح الكوكب، تجارة الزمن، لقد ارتأت تلك المخلوقات الاستفادة من قدرتها على رؤية الزمن ولمسه فجمعته وعرضت على البشر تجارتها، أي شخص يريد بيع عواطفه يستطيع ذلك وبالمقابل يحصل على كمية من الزمن تضاف إلى عمره وحياته.
اهتزت النفس البشرية لما يجري، وكأنها تقف عارية أمام امتحان يختبر حقيقة وجودها، لقد انذهل البشر لما يحصل وعمّت التساؤلات الكبيرة، لكن هذا كله لم يكن يشغل المخلوقات، فهي ببساطة تريد بيع الزمن مقابل العاطفة، وبالتالي تأمين الغذاء واستمرارها بالحياة، لم تكن تدرك أنها بهذا تهز أركان البشرية، إنها تسهم في صنع كائن جديد.
كأي تجارة تعتمد على العرض والطلب، بات لها سوقها وزبائنها، نستطيع أن نتخيل كميات كبيرة من كبار السن أصحاب النفوس الشابة والذين ما زالوا يريدون المزيد من الحياة، ثم عندما بات المستحيل واقعاً، لم يكن بيع العواطف يمثل لهم أي أزمة، فهم سيحصلون على صك تمديد لأعمارهم الهرمة، أيضاً كثير من المرضى المصابين بأمراض عُضال ولم يصل الطب بعد للعلاج المناسب قاموا باتخاذ هذا القرار، لقد تخلوا عن مشاعرهم مقابل زمن يُضاف لأعمارهم لعلّ الطب يصل للعلاج المناسب لهم، وفي حالات مشابهة، بادر كثير من الآباء والأمهات لبيع عواطفهم في سبيل إضافة كمية من الزمن لأعمار أولادهم المرضى، مع علمهم أنهم سيفقدون أي شعور تجاه أطفالهم فيما بعد، فلن تعود الأم تملك عاطفة الأمومة تجاه ولدها التي ضحت بمشاعرها لأجله.
لقد كان الأشخاص الذين يملكون كمية كبيرة من الإحساس المفرط في طليعة المستغنين عن تلك المشاعر، ولم يكن السبب حبهم لمزيد من الحياة بقدر ما كان يمثل لهم هذا البيع خلاصاً من عذابات العاطفة اليومية، وهناك قسم كبير من الزبائن الذين تمثل لهم العاطفة نقطة ضعف، قد يستغلها غيرهم فيهم، وغالباً أنهم مروا بتجارب كانت عواطفهم هي السبب الرئيسي في بؤسهم وتضخم نظرة اللاجدوى من الحياة لديهم، فكان الاستغناء عن المشاعر نقلة نوعية في حياتهم، أيضاً ليس لتعلقهم بالحياة نفسها، بل لأنهم كانوا يظنون أن هذا سيزيدهم قوة وصلابة، وهذه الحياة لا تحتاج لغير العقل كي نمارسها، والبعض كانوا مترددين، ربما الخوف من المجهول هو ما كان يؤثر في قرارهم أو ربما أنهم يظنون أن العاطفة هي الشيء الوحيد الذي يضفي معنى على الحياة، فما قيمة السنين التي نعيشها بغير حب وفرح وسعادة وحتى ألم وقهر، إن لم نعد نُحس بهذه المشاعر، فقدنا حقيقة وجودنا، وكانوا من الذين أحجموا عن هذا التصرف، تساءلوا كثيراً وقالوا: ما الفائدة من هذه التضحية إن فقدت غايتها؟ ما الفائدة من إنقاذ شخص عزيز وفي ذات الوقت فقدان أي شعور تجاهه؟
أما البعض فقد ربط حقيقة الوجود بالتفكير، بالتالي الاستغناء عن المشاعر مع بقاء العقل والقدرة على التفكير لا يعني إلغاء الشخص، ومن جهة أخرى قال غيرهم إن العاطفة شريكة للعقل ولا تنفصل عنه بل هما نظام متكامل، وعند الاستغناء عن أحدهما سيفنى الشخص مع الزمن، فلن يقوى على مواجهة الحياة بغير ثنائية العقل والعاطفة معاً؛ لأن الجميع يبحث عن نوع من التوازن الداخلي، وبما أن العقل غير قادر بنظرهم على تفسير كل شيء، هنا يأتي دور العاطفة التي تملأ تلك الفراغات وتسهم في بقاء التماسك والتوازن داخل النفس.
لقد أصبحت تلك النقاشات حاضرة في كل حديث، وكان السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل الإنسان الذي باع مشاعره "لأي سبب كان" ما زال يحتفظ بصفته الإنسانية أم أنه تحول لكائن آخر؟، وإن كان تحوّل لكائن آخر فهل هذا الكائن صعد درجة في سلم التطور وبات فرعاً جديداً من شجرة الحياة، أم أنه هبط درجة نحو الأسفل؟
فيما بعد لم تعد هذه التجارة مهمة بقدر نتائجها، لقد ساهمت تلك التجارة في صنع كائن جديد، ومثيرِ لجدل كبير، لقد بات لدينا كائن فاقد لأي عاطفة، ويعتمد في أسلوب حياته على العقل فقط، لقد فقد جزءاً مهماً من تكوينه البشري، أو على الأقل هذا ما قاله معارضو تلك التجارة، لقد أصروا على أن من يقوم ببيع مشاعره "لأي سبب كان" فإنه يتخلى عن صفة الإنسان، وبالمقابل لم يستطِع البعض الجزم إن كان هذا الشخص فقد إنسانيته أم أنه ما زال محافظاً عليها؟ هل صعد درجة في سلم تطور الكائنات الحية أم أنه هبط درجة؟ لقد صنع ذلك الكائن المتجرد من المشاعر ريبة كبيرة في نفوس علماء النفس والاجتماع والسياسة والأحياء وحتى رجال الدين، إنه ظاهرة جديدة ويطرح أسئلة كبيرة أمام جميع ما آمن به الإنسان وما وصل إليه من علوم.
مما لاحظه المقربون من الأشخاص الذين باعوا عواطفهم وتجردوا من أي مشاعر، أنهم باتوا أكثر هدوءاً وقليلي الكلام ويميلون إلى العزلة، لقد باتت حدقاتهم أوسع وأصبحوا يتأملون كثيراً في الأشياء من حولهم وكأنهم يكتشفونها لأول مرة، كما أنهم قطعوا علاقاتهم بالأصدقاء الذين لا تربطهم معهم مصلحة ما، لم يعودوا يهتمون برحلات الترفيه أو السهرات الجماعية أو حتى الحفلات إلا إن كانت رسمية وتخص أحد المواضيع كالعمل، ومن كان منهم مهتماً بالشعر أو الرسم أو الموسيقى، فقد اهتمامه بتلك الأمور، لقد أصبحوا فضوليين لدرجة النهم، وباتت المكتبات العامة تعجّ بهم، كانوا يطرحون الكثير من الأسئلة، ونادراً ما ترضيهم الإجابات المتداولة بين الناس، وأظن أنهم في حركة طبيعية لملء الفراغ الذي تركته العاطفة؛ لأن النفس البشرية لا تقبل الفراغ، بل يجب أن يكون هنالك شيء ما يملأ فيها ذاك التساؤل أو تلك الحيرة، عن طريق الحقيقة أو الوهم، أجل لقد صارت أجسادهم أكثر صحة وقوة، وازدادت مناعتهم وكبرت مقاومتهم للأمراض، أيضاً انخفضت نسبة ساعات نومهم، ولسبب ما اهتموا بالتاريخ كثيراً.
في ظل كل ذلك كان أحد الأشخاص يكتب على جدار مبنى قديم تساؤلاً: "إن باع الجبناء مشاعرهم، هل يتساوون مع الشجعان؟".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.