قوة امرأة ضعيفة

رحل وترك لي حملاً لم أتوقع أنني أستطيع أن أحمله بعد أن ماتت داخلي الحياة بعد أن كسرت، بعد أن ضحيت بعمري من أجله ومن أجل إبقاء هذا المنزل حياً، وإن كان باطنه ميتاً داخلي، ولكنه لم يتذكر لي معروفاً يوماً، أغراه المال ونسي ما كان عليه.. لم يحمد ربه على نعمته.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/29 الساعة 01:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/29 الساعة 01:45 بتوقيت غرينتش

وضعت يدي على كتفه وقمت بضمه إلى صدري، وقلت له: ما بك لماذا تحمل كل هذا الوجع وحدك؟ شاركني لنحمله معاً. نظر إليّ وعينه مليئة بالحزن، وقال: ضيق الحال يقتلني ولا أعرف ماذا سأفعل في الطفل الذي تحملينه، كيف سأكفي احتياجاتك واحتياجات ما تحملين؟! والديون على كتفي تزيد، والحمل يصبح ثقيلاً يوماً بعد يوم، ولا أعرف ماذا يمكنني أن أفعل وميعاد تلك الديون يقترب؟

رفعت وجهه وأنا أمرر يدي بين خصلات شعره بحنان، وابتسمت في وجهه، وقلت له: "لا تقلق هتفرج"، خذ ذلك الذهب وتصرف فيه حتى تتخلص من تلك الديون، قال: لا يمكنني فعل هذا. رددت عليه بصوت دافئ يحمل حب العالم كله وأنا أحتضنه وقلت له: هذا مالك، وحين يفرجها الله عليك ائتِ لي بأفضل منه، تخلص من دينك لتتفرغ لطفلك الذي طالما حلمت به.
ابتسم في وجهي ولم يقل شيئاً، ولكن لمعة عينيه كانت تقول أشياء كثيرة، وكعادة البدايات كان المشهد كما يبدو وردياً .

مرت السنون والأيام أسندت زوجي حتى أصبح غنياً، أعطيته من عمري ما يكفيه عمرين فوق عمره، أسنده كلما سقط، أقومه على الطريق كلما انحرف، وعمل بالتجارة ليصل إلى ما وصل إليه، ولكن ليس الحال وحده ما تغير، قلبه أيضاً لم يعد هنا.

أتذكر تلك الليالي البائسة جيداً، وخاصة تلك الليلة، الثالثة بعد منتصف الليل، يدخل من الباب ويغلقه بعنف، يعلو صوته بأنه يريد الطعام، أسرع لأحضر له ما يريد، أسأله ماذا بك؟ يرد بعنف: "لا تشغلي بالك بتلك الأشياء ضعي الطعام واذهبي للنوم فقط".
كانت تلك الفترة مضطربة بيننا يتعمد أن يخلق المشاكل، صوته دائماً مرتفع، ومزاجه لا يصفو أبداً داخل جدران هذا البيت، ولكن تلك الليلة كانت أقساها.

أحضرت إليه الطعام، قال لي إن هناك طبقاً بارداً، قلت له: أحضره لأضعه على النار مرة أخرى، وحين حاولت أن أمسك بالطبق، نظر إلي وعينه مليئة بغضب لم أرَه في عين زوجي منذ أن تزوجنا، ضرب الطعام بيده وأسقطه على الأرض، وقال لي بعنف: "انتي العيشة معاكي بقت تقرف".
تعجبت كثيراً ونظرت إليه، وقلت له وفي صوتي شيء من التوتر محاولة أن أتماسك: لم يحدث شيء لكل هذا.
اقترب مني وفجأة رأيت هذا العالم ضبابياً من كثرة البكاء، لم أستطع أن أتخيل ما حدث تلك الصفعة على خدي، كانت زلزالاً هز كل شيء داخلي.. وهرول مسرعاً من أمامي ولم أسمع شيئاً سوى صوت الباب وهو يغلق بعنف.

لا أستطيع أن أصف تلك الكسرة داخلي، ولا يمكنني أن أتخيل هذا المجنون، نظرت إلى باب الغرفة فوجدت ابني يقف خلف الباب خائفاً ويبكي، أسرعت إليه واحتضنته بشدة، وحاولت أن أخفف عنه بكاءه وهو بكل براءة يقول لي: "هو بابا بيعمل كده ليه يا ماما؟!"، لم أستطِع أن أجيب؛ لأنني بالفعل لا أعرف ماذا يحدث داخله.

تكررت تلك الليالي كثيراً خمسة أعوام خسرت فيها كل شيء داخلي ينتمي إلى تلك الحياة، بعد كل مشكلة حين أذهب لعائلتي وأشتكي، كانوا يقولون لي: دعي الأمور تمر، احتضني ذلك الطفل وربّيه، ضِل راجل ولا ضِل حيطة.

مرت الأيام، ولكنها لم تمر بداخلي، عرفت بالصدفة أنه تزوج من امرأة أخرى، حين كان يرن هاتفه يذهب بعيداً ويتحدث لفترات طويلة ثم يعود، ولم تكن تلك عادته وتكرر الأمر، قررت أن أواجهه بالأمر، لم ينكر شيئاً قال لي إنه متزوج منذ خمسة أعوام، صمت برهة مرت السنون أمامي كأنها تحدث الآن، وكأن كل صفعة كانت تمر علي أشعر بألمها أضعاف الآن.. قلت بغضب: "كنت تفعل كل هذا لتذهب إليها كل مساء بحجة أنك لا تطيق العيش معي".. صمت قليلاً وبعدها قال "انتي طالق"، كسرني وكأنني لم أحتوِه يوماً من الضياع، لم أبكِ تلك المرة لا أعلم من أين حصلت على القوة داخلي في تلك اللحظة.

رحل وترك لي حملاً لم أتوقع أنني أستطيع أن أحمله بعد أن ماتت داخلي الحياة بعد أن كسرت، بعد أن ضحيت بعمري من أجله ومن أجل إبقاء هذا المنزل حياً، وإن كان باطنه ميتاً داخلي، ولكنه لم يتذكر لي معروفاً يوماً، أغراه المال ونسي ما كان عليه.. لم يحمد ربه على نعمته.

رحل وترك لي ابناً لا أعلم ماذا ترك داخله.. اضطررت أن أستجمع قواي، وأن أحتضن ذلك الولد الذي لم يحمل ذنباً في هذا العالم سوى أن هذا الرجل كان أباه، ولكن يجب أن يعلم جيداً أنه لم يكن هكذا.

بحثت عن عمل لأبقي هذا البيت حياً دائماً؛ لأبقي على هذا الولد، لأربيه للعالم، لأزرع فيه رجلاً يستطيع أن يحتضن ضعف أنثى احتمت به، ويسند ما تبقى مني حين أهوي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد