ثمة يُسر

هناك تحديداً، في الصوت الداخلي الخفي المنبعث من الأعماق، في الانعكاس الحي لما مضى تكمن الفرحة الكبرى، وتتعرى مأساة الحياة التي لا يمكن نكرانها.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/27 الساعة 04:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/27 الساعة 04:33 بتوقيت غرينتش

يحدث أن تعقد عهداً مع القادم الأجمل، أن يفرحك من خلال الذين تتنفس من خلالهم وتستظل بظلهم ولك فيهم حياة أخرى.. وقد اكتشفت فجأة أنك قطعت جسوراً تحمل الكثير من الحماقة وشيئاً من الظلم والعناد الفارغ.. تتصالح مع معالم الأشياء التي كانت تقابلك أينما وجدت.

يحدث أن تحيا من جديد، أن تكون تلك شجرة الياسمين التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، تحيا كل لحظة في يومك بدلاً أن تتركه يحييك بطريقته، تقاوم الشتات القابع داخلك، تدرك أن سقوطك محتوم كما نهوضك للحياة محتوم وجداً، يسكنك الجنون ويشتعل الفرح من روحك المنطفئة، تعشق الصباح ومجالسة الأصدقاء فتندهش لخفقان قلبك كثمرة فرح طرية تنمو في الناحية الجافة من قلبك، كعصفور صغير يحاول الطيران لأول مرة مغرداً: "انهض".

هناك تحديداً، في الصوت الداخلي الخفي المنبعث من الأعماق، في الانعكاس الحي لما مضى تكمن الفرحة الكبرى، وتتعرى مأساة الحياة التي لا يمكن نكرانها.

هنا تكمن فرادتها، شغبها، صخبها وفوضويتها ليتسرب إليك وعبر طبقات الجلد الداخلية أمان غريب، يجعلك تجري احتفالاً صغيراً بك، تحضره قبيلة من الكائنات الصغيرة الممتلئة بك حد اللاحد، والتي صنعت في أعماقك ما لم يصنعه أحد، تطبطب عليك، فهي الرداء الدافئ حين كنت ترتجف في دوامة عاصفة، ولم تهدك وأنت تغرق طوق نجاة بل كانت هي النجاة التي ما كادت تصل في انشقاقها إلى منتصف العمق، حتى اهتزت أوصالك لتعود صلباً، مقاوماً ضد عالم مكتنز بالمفاجآت، حياً قبل كل هذا الصراع والتشتت.

فمثلما توجد خيارات كثيرة بهذا العالم كتلك التي بداخلك يبقى أبرزها اثنان، فإما أن تحتضر أو تنتصر.
أشياء عظيمة يلزمها بعض الجنون، كثير من العصامية والمحبة المطلقة وكأنها القطعة التي تنقصك لتكتمل، فمن المتعب الممتع حقاً أن تعانق أحلامك بكل ما أوتيت منك، ولآخر ذرة في قلبك، ألا تحيا لأي شيء بنصف قلب.. يكفي أن يغزو النور روحك فكلما زادت حلقة انتشاره، سطع وانتصر.

فلا شيء أكثر غرابة حين تصبح الأيام جميعها مشرقة وأنت تسعى لحلمك، ذلك أن كل لحظة من يومك هي نفسها لحظة السعي، لحظة اللقاء المنتظرة وأنت تعلم أن الأحلام قد تأتي فرادى ولو تأخرت، إذا أقبلت تمسك بإحداها وانتظر المزيد إلى حد لا تدري فيه علام تفرح.

متعة كاملة أن تجعل كل ما فيك يتلألأ كألوان قوس قزح حيث يتحد النور والهواء ومسببات الحياة مع زخات المطر بعد تعب وطول انتظار، ذلك أن أهم انتصاراتنا هو لب ثمرة معانـاة انتهت بتتويج.

إنك لست بحاجة أن تعيش فقط بعد التعثر بقدر حاجتك للإبحار، ذلك أن دائماً هناك احتمال آخر لتتويج سقوطك بغير الفشل والهزيمة ما دمت قد قررت أنك لن تموت قبل أن تحيا، أن تبحر وتبدع، أن تتذكر أن كل ما في الأمر أنك في لحظة غريبة برزنامة العمر.. تهت، عن طريق الصدفة، في غابة متشابكة أغصانها، اقتربت فخدشت قليلاً، وأن قلبك ما زال ينبع، يثمر، ويفيض.. وأنك حقاً بخير، وأن قبل أن تصحو بذاكرة جديدة لا بد أن تتخلص من الأشياء البالية التي تمسك بأطراف ذاكرتك وتخرج الأشياء المتمردة المستوطنة داخلك متراصة كحبات لؤلؤ لتمارس الاستكشاف، دعها تعيش التجربة ولو بخبرة قليلة، تستشعر لذة التعب والمحاولة وتكشف لك بالتدريج سراً من أسرار الحياة وحقائق عظمى نتيجة الخيارات المتهورة والأهواء الفوضوية التي تسود الحياة عامــةً.

إذاً هي تفاصيل بسيطة تقتات على أمل دواخلنا وتتراقص بخفة الضوء، نراها في كل ما هو جميل، في صلاة الفجر.. في تفتح ورود الربيع.. في حلم طالب عربي.. في حمرة خجل صبية عاشقة، في كفوف أم وهي تدعو لفلذات كبدها.. في كل عسر يتلاشى وينتهي كنقطة بآخر السطر، كغيث مبارك يروي جفافاً اتساع السماء.

وأنت تغرق بعالم يستهزئ ويمزق روحك الهشة، حبيس قبضته الحديدية من الخيبات والوحدة وعمق الانكسار.. يشطر قلبك قطعتين كلتاهما تتخبط بجهة، تذكر أن لديك من القوة والعزم ورباطة الجأش ما قد يذهلك، فليس من شعور يوازي ما تخلقه قمة الألم في انتفاض الدم بعروقك وتحريرك على وقع الإرادة المفاجئة ونزع جذور اليأس السامة بداخلك.. تتريث قليلاً لتعيد ترتيب أوراقك المتطايرة وتبصر الكون بقلبك الممدود للسماء، راضياً، موقناً أنك استيقظت من سباتك الروحي، تفرد يديك للحياة وتتبدد وحشتك، يولد الأمان بأعماقك ويتصاعد منسوب الفرح والحرية.. تتنفس رائحتهما العالقة بك، مطلقاً صرخة مدوية تثير رغبتك إزاء الأشياء، إزاء الطبيعة، إزاء العائلة والأصدقاء، إزاء القصيدة والأفكار، محاطاً بكل ما قد يقاسمك صفوة المحبة وعنفوان الأمل..

بعيداً عن البأس واليأس الماضيين ذلك أن ثمة شغفاً لا يقبل نصف سعي ونصف حماس، وثمة تأمل ولمس لمخبوء، وثمة لحن جميل تتراقص على أنغامه الفراشات والطيور، تتمايل له أغصان الأشجار طرباً، ثمة ليمون يزهر بلهفة أشد، وثمة مدن صامتة لا بد أن تستيقظ لاستقبال صباحات التوليب الباسمة، وثمة أماكن عدة يجب أن تزار وأعماق لا بد أن تستكشف، وثمة روايات أدبية لا بد أن تقرأ، وأشياء تقشعر لها العظام فرحاً.. ثمة حب، ثمة يسر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد