بحلول الوقت الذي وصل فيه عمال الإنقاذ أخيراً، كان الجميع قد ماتوا. فعلى مدار أسبوع تقريباً، حاول الجيران اليائسون إزالة الأنقاض، باحثين عن نحو 130 شخصاً دُفِنوا تحتها بعد تدمير غارات التحالف لـ3 منازل في ضواحي غربي الموصل.
واصلت الصورة الكاملة للمذبحة التكشُّف الجمعة، 24 مارس/آذار، حينما انتُشِلت 20 جثة على الأقل. ويُعتَقَد أنَّ عشرات آخرين لا يزالون مطمورين تحت الأنقاض في الحادثة التي يمكن أن تصبح أكثر حادثة فردية فتكاً بالمدنيين خلال الحرب ضد تنظيم "داعش"، وفق تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية السبت 25 مارس/آذار 2017.
وقال رجال الإنقاذ في مسرح الحادثة في ضواحي الموصل الجديدة أنَّهم قدموا بالسيارات من مسافة 250 ميلاً (402.34 كم) من بغداد، لكنَّهم لم يكونوا قادرين على دخول المنطقة حتى يوم الأربعاء، 22 مارس/آذار، أي بعد 5 أيام من الضربات الجوية التي استهدفت المنازل التي كان السكان المحلِّيون يتِّخذونها ملجأً هرباً من القتال العنيف بين القوات العراقية و"داعش".
وقال الجيران في مكان الحادث إنَّ "80 جثة على الأقل انتُشِلَت من منزلٍ واحد فقط، حيث شجَّع السكَّان من كبار السن الناس على اتِّخاذه ملجأً. وكان رجال الإنقاذ يواصلون الحفر خلال أنقاض المنزل، وبقايا منزلين آخرين قريبين، سُحقا أيضاً خلال الضربات التي وُصِفَت بأنَّها مُرعبة وعديمة الشفقة".
وطالب مجلس قضاء الموصل، أمس الجمعة، بإعلان المدينة منطقة منكوبة وفتح تحقيق بالمجازر التي ارتكبت فيها، مؤكداً أن ما تعيشه الموصل مأساة حقيقية. فيما قال المرصد العراقي لحقوق الإنسان إن "فرق الدفاع المدني والأهالي، انتشلوا جثث 500 مدني قتلوا خلال الأيام الماضية بقصف طيران التحالف الدولي"، وفقاً لما ذكره موقع "العربية نت".
ووقع الدمار في حيٍ كان يُمثِّل جبهة مواجهة في معركة الموصل خلال الأسبوع الماضي. وقال السكان المحليون إنَّ المُسلَّحين وضعوا قنَّاصاً على سطح المنزل الذي آوى أكبر عددٍ من الناس. وقد أثار هذا تساؤلاتٍ جديدة حول قواعد الاشتباك في الحرب ضد تنظيم "داعش"، وذلك بعد غارتين أميركيتين في سوريا أسفرتا عن سقوط 90 ضحية على الأقل، يُعتَقَد أنَّ جميعهم تقريباً من المدنيين.
ويقول السُكَّان في الموصل الجديدة إنَّ أحداً من أعضاء "داعش" لم يكن يختبئ بين المدنيين، وذلك على الرغم من أنَّ عشرات من المُسلَّحين كانوا يحاولون الدفاع عن المنطقة في وجه هجومٍ من جانب القوات العراقية الخاصة.
وأعلنت السلطات العراقية السبت 25 مارس/ آذار 2017 فرار أكثر من 200 ألف شخص من الجانب الغربي لمدينة الموصل منذ انطلاق العمليات العسكرية الشهر الماضي، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية.
وقال ماجد النجيم، 65 عاماً لصحيفة "الغارديان": بينما يقف إلى جوار جثمان ابن أخيه في مقبرةٍ محلية: "جميعنا نعرف بعضنا البعض، ومعظمنا أقارب". وجهَّز حفَّارو القبور قبر الرجل بينما كان الناس يبكون من حوله. وأضاف: "وجميع العائلات كانت في واحدٍ من بين 3 منازل. إنَّنا ننتمي لعائلات الجبور، والدليم، والطائي. وفي ذلك اليوم، بدأت الغارات حوالي الثامنة صباحاً. وعادةً نختبئ في ذلك المنزل، لكنَّنا غادرنا قبل أن تعود الطائرات. وكانت هناك 3 ساعات بيننا وبين الموت".
وأضاف: "كانت الأيام التالية مُرعِبة. كان هناك أطفال يصرخون تحت الركام. ولم يأتِ أحدٌ لمساعدتهم. وأخبرتنا الشرطة البارحة أنَّه لا يُوجَد شيء بإمكانهم القيام به".
وقال رجلٌ آخر، ثانوم هندر، كان يجلس ويشاهد أحد الحفَّارين وهو يحفر خلال أكوام متشابكة من الحجارة والمعدن، أنَّ ابنه وزوجة ابنه كانا هما الناجين الوحيدين اللذين استطاع السُكَّان المحلّيون إنقاذهما. ومات أطفال الزوجين في الهجوم، وفقدت زوجة ابنه كلتا قدميها.
وأضاف: "اعتقدوا أنَّ القبو كان آمناً. وفي هذه اللحظة، سمعتُ القصف، وجريتُ إلى المنزل. كان هناك مدنيون يصرخون. ولم يكن بإمكاني فعل شيء".
وقال نجل الرجل، علي هندر، مُتحدِّثاً من العيادة التي كان يُعالَج فيها: "كان هناك الكثير من القصف فوقنا، ومن ثمَّ بدأتُ أشعر بأنَّ كل شيء ينهار من حولنا. دُفِنّا لمدة 10 ساعات حتى أخرجنا الجيران. لقد فقدتُ أطفالي".
من جانبه ذكر الجيش الأميركي أنَّه بدأ تحقيقاً حول الموضوع. وقال الكولونيل جوزيف سكروكا من قيادة التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في بغداد: "بدأ التحالف تقييماً رسمياً حول الضحايا المدنيين للتأكُّد من مصداقية هذا الادِّعاء" القادم من الموصل.
واتُّهِم تنظيم "داعش" على نطاق واسع باستخدامه المدنيين كدروعٍ بشرية من خلال وضعه للأسلحة والمقاتلين على أسطح المنازل. وقال معظم السُكَّان في مكان الحادث إنَّه في حين أنَّ أعضاء التنظيم كانوا بالفعل فوق سطح أحد المنازل، فإنَّ أولئك الذين اتَّخذوا من المنزل أسفل هذا المنزل ملجأً لهم قد فعلوا ذلك طوعاً.
واختلف مصطفى علوان، وهو مالك متجر محلي، مع هذا. وقال، مُشيراً إلى الأنقاض الضخمة التي يبحث الحفَّارون خلالها بصورةٍ منتظمة: "ذهب ابن عمي وشقيقته إلى ذلك المنزل. لقد أجبرهم داعش على الذهاب إلى هناك. لقد وجَّهوا بنادقهم إليهم وجعلوهم يدخلون. لقد فقدتُهما كليهما".
وقال رجل آخر يُدعى سبحان إسماعيل إبراهيم إنَّ زوجته وثلاثة من أطفاله قُتِلوا في المنزل نفسه. وأضاف مُتحدِّثاً بهدوءٍ كبير: "أحد الأطفال كان عُمره 4 سنوات، والآخر كان عُمره سنة واحدة، والثالث كان عُمره أقل من 3 أشهر. لقد فقدتهم جميعاً، وعلى العالم أن يعرف ما حدث لهم".
وكان الضباط العراقيون مسؤولين بصورةٍ كبيرة عن طلب الضربات الجوية، التي تُنسَّق لاحقاً مع مراكز العمليات التي تقودها الولايات المتحدة بعد موافقة كبار القادة. وغالباً ما يُوجَّه المراقبون الجويون للتحالف الغارات إلى أهدافٍ مُحدَّدة، بحسب تقرير "الغارديان".
وأمر دونالد ترامب في وقتٍ سابق هذا العام بمراجعة قواعد الاشتباك التي وضعها سلفه أوباما، والتي أصرَّت على درجة "شبه يقينية" لعدم وقوع ضحايا من المدنيين قبل السماح بالغارات الجوية. وفي حين أنَّ تلك المراجعة لم تنته بعد، تثور مخاوف متزايدة من أنَّ حقيقة المراجعة التي أُمِر بها قد تكون أدَّت بالفعل إلى خفض درجة التأكُّد المطلوبة للسماح بالضربات الجوية.
ورداً على استفسارٍ سابق بخصوص الغارة الجوية التي خلَّفت خسائر هائلة في الأرواح في الرقة السورية هذا الأسبوع، نفى قائد الجيش الأميركي في العراق أية "تغييرات جديدة في الإجراءات العملياتية من أجل الموافقة على الضربات الجوية في ظل الإدارة السابقة أو الحالية". لكن قِيل أنَّ قائد المعركة، الجنرال ستيفن تاونسند، قد "منح سلطة الموافقة على شن ضربات جوية معينة إلى القادة الميدانيين" في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وذلك بهدف تسريع المساعدة للقوات العراقية التي تواجه حرب عصاباتٍ في الموصل. وقال القائد إنَّ تلك الضربات الجوية "لا تزال خاضعةً لنفس التدقيق والعناية اللازمة".
وفي المقبرة، قال ماجد النجيم: "هل وجود قنَّاص واحد لداعش فوق أحد الأسطح سببٌ كاف لإرسال طائرة بقذيفةٍ كبيرة لتدمير المنزل؟ لقد استهدفوه عدة مرات. لقد أرادوا أن يُدمِّروا كل ما كان بالداخل".
وأضاف: "وبعد ذلك، كُنَّا بحاجةٍ إلى مُعدَّات لإنقاذ الناس. كُنَّا بحاجةٍ إلى جرَّافة واحدة فقط، أو أي شيء. لكنَّ مسؤولي الحكومة الفاسدين لم يكن بإمكانهم مساعدتنا، وما كانوا ليساعدونا لو كان بإمكانهم ذلك. إنَّها جريمةٌ شنيعة".
وفي قاعدةٍ عراقية قريبة، انزعج رائدٌ من القوات الخاصة حينما وصلته تفاصيل الكارثة. وقال: "إنَّها ليست منطقتنا ولا نعرف أي شيءٍ عنها. لقد فقدنا أناساً أيضاً، حوالي 20 زميلاً يقاتلون عدو الجميع". وبعد فترة، هزَّ كتفيه وقال: "ماذا يمكننا أن نفعل؟ إنَّها الحرب".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.