خُذني إليك أيها الأملُ من هذه الحياة الظّالِمِ أهلها، في هذه المدينة يسكُنُ الشّيطانُ، يتجلى الشر في أبها حُلله، خلف تلك المباني الشّاهقة، لا مكان هنا لأصحاب القلوب الطيبة، بين دروب ذلك الحي الكئيب يترعرع الحقد، ويسود الحسَد، ويحتفل الغدْرُ نهاية كل أسبوع في ملاهي النفاق، وسط صخبٍ كبير، وكثيرٍ من الضحكات الصفراء.
لكل مدينة جواز دخول، وجواز دخول هذه المدينة رُزمة من المبادئ، تضعُها عند باب الدخول، كما يضع المصلي حذاءه عند باب المعبد، المبادئ اتّسخت كما النِّعال من كثرة المشي عليها، الأخلاق في أركان هذه المدينة منبوذة، والفضائل في هذا الحي مرفوضة، الوُصُولية هنا مفخرة محمودة، وماكيافيلي من الشخصيات المعبودة.
أَتيتُ المدينة وجدتها سقطت، غوثام معقل باتمان في ملحمة الخير والشر الأزلية، أسدَلَتِ السِتّار، وصفقّ الجمهور للجوكر بقدر ما صفق لباتمان، طغت كاريزما الشر المُتمثل في شخص الجوكر على المشهد، وسَوّقَت بامتياز لنظرية الفوضى الخلاقة، وألهمت الناس منطق ضرب الشر بالشر.
ومن منا لم يُعجب بشخصية الجوكر الفنان، ذلك أن الشر يُغدينا في عصر التناقض، ذلك أن الانتقام وسيلتُنا الوحيدة للخلاص، وسيلتنا الوحيدة للتصالح مع أنفسِنا، ذلك أن بين الخير والشر هوة فاصلة، يعتبرها البعض قانونا مُنظِّماً، ودستوراً حامياً، يحكم على الجوكر بالشر المُطلق، وباتمان بالخير المطلق.
وهنا مبلغ التناقض؛ إذ كيف لسلطة بشرية الحكم على سُلطة مُطلقة مِثالية؟ كيف لقانون وضعي الحكم على مِثالية باتمان؟ وفي المقابل كيف لباتمان أن يكون مثالياً إن لم يحترم هذا القانون الوضعي؟ ويقضي على الجوكر دون محاكمته كما ينص القانون؟
تلك من الأسئلة التي وُجدت لتقضي على مُتعة الفيلم من وجهة نظر أصحاب باتمان الذين باتوا قلائل، أما أولئك المُبجِّلِون للشر المُتمثل في شخص الجوكر، فهم يعتبرون هذا النوع من الأسئلة هامشاً جيداً للتلاعب بالمفاهيم وتقنينِ الشر كوسيلةٍ لتحقيق العدالة.
في تلك الهُوَة بالضبط، وعلى هذا الهامش يعيشُ الكثير من الناس؛ حيث في بادِئ ذي بدْءٍ كان الشرُّ معروفاً منبوذاً، ثم بدا معتاداً مقبولاً، ثم صار موضة منشودة، وإن كانت السينما ترسم الواقع أو المستقبل كما يشاع، فها هي قد بَجَّلَتِ الشر في كثير من الأفلام، آخرُها سويسيد سكواد، الذي جُمِعَ فيه خِيرَةُ الأشرار عبر التاريخ، من أجل إنقاذ العالم!
الشر يُنقذ العالم، سمِعتُها وخُيِّلَ إليَّ أني أسمع جملة بالغة التناقض من قبيل أنا وبحمد الله مُلحد، ولكن في ذلك وجهة نظر، فما دام أولئك الذين يدّعُون الخير أشراراً فوجب إذاً مُقارعتهم بالشر، وما دام أولئك الذين يدّعون الخير قد صنعوا قنبلة ذرية فلنفجرهم إذاً بها ونُقيم العدالة والمساواة عن طريق الشر.
لا يتعلق الأمر باتباع الخير ونبذ الشر، إنما يتعلق بتحديد جهة الخير وجهة الشر، يتعلق بالابتعاد عن تلك الهوة الفاصلة بينهما، بقتل الشك الذي يصنع منّا إنساناً مذبذباً لا إلى النور ولا إلى الظلام، وليس الشر غياب الخير، لَيْتَهُ كان كذلك لما كنا حينها نتعب في تحديده، لا يتعاقب الخير والشر كما يتعاقب الليل والنهار، بل هما حقيقتان قائمتان بذاتهما كل على حدة، وهما طرفا حرب، والعِراكُ سِجَالٌ بينهما إلى أن تزول الأرض والسماء.
استيْقنْتُ بعدها من هذه المدينة، أننا لم نولد لنموت موتاً أبدياً، وُلِدنا لنحيا حياة بعد الحياة، ولدنا لنبحث عن الحقيقة ونفني حياتنا من أجلها، ولدنا من أجل المشهد الأخير هناك في السماء العاتية، ولدنا لمشهد العدالة الأخير؛ حيث الحقيقة المطلقة والخير المطلق، حيث لا مكان للهوامش في يوم الفصل، لا وجود للبين بين، فإما اليمين وإما الشمال، لا مكان هناك للشك الذي يعزف عليه الشيطان كل آماله ومشاريعه، لا بد من يوم نجد فيه أجوبة لكل هذه الأسئلة السرمدية.
إلى ذلك الحين كُتبت علينا رحلة بحث طويلة، في دروب أنفسنا بين الوعي واللاوعي، نقاشات كثيرة لا تتوقف، وقرارات كبيرة تميل بكفتنا تارة إلى الشر وتارة إلى الخير، وللنجاة في ظل هذه الظروف البئيسة، وجب علينا أبداً توقع الشر والتأهب له، والإيمان بالخير.
فعذراً أيها الأمل قد أعدتُ التفكيرَ، وقرّرت العيش وسط هذا الشر المستطير، عذراً لقد كان ندائي سوء تقديرٍ، لا أريد ذهباً وحريراً، ولا راحة بعد راحة وعيشاً أثيراً، عذراً فالحياةُ مع هذا الشر المريرِ تجعلك دائماً متأهباً مستعدّاً عسيراً، على كل ناقم متآمر خطيرٍ، عذراً فشرهُمُ وقودي لإعلان النَّفيرِ، إن كان في الشر خير يذكرُ، فهو هذا الاستعداد الدائم للنَّفير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.