سوف أنجو من هذا، نعم، سأتخطاه وسأصبح يوماً ما أريد وأحقق ما أحلم به، ألا يقولون إن الصعاب تصنع الأبطال والقادة، لا بد أنني لم أنشأ في تلك الظروف القاسية عبثاً، قد لا أعلم الكثير عن الحياة بعد، والكيفية التي يسير بها هذا الكون، بيد أنني أعلم يقيناً أن كل أمر مرتب له ترتيباً محدداً عجيباً، قد لا تقوى عقولنا المحدودة على استيعابه.. لا شيء يحدث مصادفة.
كالنبتة التي تشق الصخر متحدية صلابته فتنمو وترنو نحو السماء، كالصبار الذي يتحدى قيظ الصحراء الشديد وماءها الشحيح، يمد جذوره عميقاً باتجاه الآبار الجوفية، وينشرها عند هطول الأمطار؛ ليخزن احتياطيه الاستراتيجي ويستمر نابضاً بالحياة وسط بيئتها القفراء، كأمثلة شتى لأنواع النجاة في الطبيعة والكائنات علينا أن نتعظ ونعتبر، كيف لا ألسنا السادة الذين سخر لهم مولاهم هذا الكون واستخلفهم فيه؟!
غير أن البعض يُسيء فهم الاستخلاف.. كل من يحمل على عاتقه مسؤولية أمر ما، وكل مَن يتولى رعاية شخص ما، كل رئيس ومدير، كل صديق وزميل عمل، كل حبيب وزوج، كل أب وأم، كل أخ وأخت، كل قريب وجار، كل من تتجاوز علاقتنا بهم الدقائق المعدودة واللحظات العابرة، أولئك الذين يؤثرون بشكل ما على مجرى حياتنا، مدركين ذلك أم لا، فهم يلعبون دوراً خطيراً، يتسلل إلى أعماق أنفسنا وباطن عقولنا.
لا يمكننا إنكار أن ما يقولونه أو يفعلونه لنا يؤثر بطريقة ما على نظرتنا لأنفسنا، ومدى رضانا الذاتي عنها، ويغير من حالتنا النفسية، وقراراتنا العقلية إما سلباً أو إيجاباً.
كم من طالبٍ ترك مدرسته وربما ترك التعليم نهائياً؛ لسخرية زملائه المستمرة منه، وتعرضهم له بالإساءة لفظاً وجسداً! كم من فتاةٍ قررت أن تُنهي حياتها؛ لأن لا أحد يقبلها لتواضع جمالها، أو عيبٍ في مظهرها، لذوقها الرديء، أو وزنها الزائد! كم من حبيبٍ سلّمه حبيبه لبراثن الاكتئاب تنهش روحه، بعدما أذاقه شراباً بنكهة الخداع ممزوجاً بالتشهير، والاستغلال، والابتزاز.
الأسوأ من ذلك كله، كم من الأبناء الذين تجرعوا مرارة العنف المنزلي، كدواء حتمي مرير يتناولونه صباح مساء. بإمكانك تغيير وظيفتك، مكان عملك، سكنك، تنهي علاقتك بصديق أو شريك مؤذٍ، بيد أنك لا تملك أن تستبدل والديك، ومن تربطك بهم صلة بالدم؛ لذلك كان أثرهم هو الأقبح والأكثر تشويهاً على النفس.
الشجارات، والصراخ، والسباب، والتطاول، ذاك السيناريو القميء الذي يتكرر ليل نهار بين الطرفين. عادةً ما تصحبها إساءات لفظية وجسدية للأبناء أيضاً، متجاهلين آثار ذلك الجسيمة عليهم منذ الطفولة واستكمالاً طوال مراحل حياتهم.
يشير علماء النفس إلى أن الإساءات اللفظية التي يشهدها الأطفال بين الأزواج، أو يتعرضون لها بشكل مباشر أو لا، تؤثر عليهم بدرجة أخطر من التعديات الجسدية، تجعلهم يعانون تأخراً في النمو بمختلف أنواعه، فقد يعيق ذلك نموهم جسدياً وينتكس بهم لأفعال ارتجاعية، تنتسب لمراحل نمو متأخرة كالتبول اللاإرادي، ومص الإصبع والتأرجح.
أما اجتماعياً فقد يعانون صعوبة في اكتساب الأصدقاء، ويواجهون مشاكل في علاقاتهم الشخصية؛ فيغدون ضحايا لشركائهم مستقبلاً، أو يصبحون الجناة بحق غيرهم، بالإضافة إلى زيادة معدلات العنف الجسدي لدى هؤلاء الأطفال، وميلهم لاتخاذ سلوك معادٍ تجاه المجتمع، واتصافهم بالجنوح والإهمال.
على المستوى التعليمي قد يتخلفون في أدائهم الدراسي، ويفشلون في مواكبة قدرة زملائهم على التحصيل، وعاطفياً يفقدون درجة من الإحساس بالذات، والكرامة، والقدرة على التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم، واتخاذ قراراتهم الخاصة، ينظرون لأنفسهم دوماً على أنهم أقل من أقرانهم، ويرونهم أكثر منهم ذكاء، وشعبيةً، وأفضل مظهراً.
نبه العلماء أيضاً إلى أن مشاهدة أحد الوالدين يقع ضحية للعنف من قِبل الآخر، كمشاهدة الطفل لأمه تتم إهانتها لفظياً، أو التعدي عليها جسدياً، وتهميش دورها يؤثر عليه نفسياً بشكل أكبر وأعمق، ويخلف فيه جراحاً خفية لا يسهل أن تلتئم.
هل حقاً هذا ما تريد لفلذة كبدك أن يشعر به؟!
انتظر حتى تدرك أمراً آخر، فالانتقادات المستمرة التي توجهها لأبنائك تتهكم فيها على مظهرهم، ملابسهم، تسريحة شعرهم، طريقة جلوسهم، أكلهم، شربهم، مشيهم، كلامهم، ضحاتكهم.. إلخ من عبارات لاذعة تكويهم بها دون أن تدري.
مقارنتك الدائمة بينهم وبين أقرانهم من الأقارب والجيران، ظناً منك أنك تحفزهم بهذا، في حين أنك في الواقع تشعرهم بمزيد من النقص والسوء، يندرج أيضاً ضمن مصطلح (الإساءات اللفظية)، بل ربما يكون أثرها أشد فتكاً.
لا تتعجب لاحقاً من انطوائهم وانعزالهم في غرفهم المغلقة، وقضائهم جل أوقاتهم مع رفقائهم بينما يتجنبون أي حديث معك، وينهونه بأسرع طريق مختصر حال أن يبدأ.
فأنت لم تخلق بينك وبينهم جسراً للتواصل، بل سعت عنك أفعالك في هدم كل سبيل للتفاهم، وحطمت كل رابط مشترك، زرعت داخلهم صورةً سلبيةً عن ذواتهم، لم تترك لهم خياراً سوى الابتعاد، الذي قد يؤدي بهم لارتكاب أفعال يؤذون بها أنفسهم، نتيجة شعورهم الدائم بالذنب، وأن كل ما يفعلونه خطأ.
على المدى البعيد قد يعانون من مشاكل عضوية كالشعور المزمن بالألم، ونوبات صداع متكررة، وتقرحات، والتأتأة والتلعثم في الكلام، والقولون التشنجي، والصداع النصفي، ومشاكل في الهضم، والعديد من أمراض القلب المرتبطة بالتوتر، وأعراض أخرى نفسية كالخوف والقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، واضطرابات الفجوة بالذاكرة، ومشكلات بالنوم والأكل، ومشاكل في التحكم بالغضب وصدور ردود أفعال مفاجئة مبالغ فيها، وإدمان الكحوليات وتعاطي المخدرات، والتفكير بالانتحار.
قد تظهر هذه الأعراض بوضوح على الأبناء البالغين، مما يساعد في سرعة التدخل لإنقاذ الموقف فور ملاحظته، إلا أن الأمر يختلف لدى الأطفال.
أشهر عرض يعاني منه أطفال العائلات غير المستقرة هو الاكتئاب، الذي يكون خادعاً في عوارضه، فهي تختلف عن أعراض الانسحاب، والبكاء، والسلوك الحاقد، وغيرها من تلك التي نلحظها في نسخته لدى البالغين.
اكتئاب الأطفال يكون أشبه بحالة ضجر مزمنة، يفقد فيها الطفل رغبته واهتمامه بما يحيط به، ويفتر حماسه نحو الأشياء التي عادةً ما تثيره، وتبعث البهجة في نفسه، يجري ذلك خلافاً للنسق الطبيعي عند الأطفال؛ إذ يملكون معدلات عالية من الاهتمام والمتعة، والإثارة.
يبدأ الطفل بالقلق تجاه أشياء لا ينبغي لمن في مثل سنه القلق حيالها، قد يظهر عليه أعراض أخرى كالنشاط المفرط، ومشاعر غضب واستثارة مبالغة، وبكاء متكرر دون سبب، أو لا يظهر عليهم شيء البتة، يبدون كالصخر أطفأ مشاعره كلها لكي يتجنب شعور الألم الناجم عن عدم الاستقرار.
"الاكتئاب أسوأ من السرطان.. مريض السرطان يحيطه كل من حوله بالمحبة.. المكتئب لا" ديفيد بيرنز.
يلزم على كل والد أن يدرك هذه الآثار جيداً، ويخزنها في عقله، ويستعرض شريط حياته، ويأخذ من وقته لحظات ليسامح نفسه أولاً، ثم يعكف على أن يصحح الكيفية التي اعتاد أن يعامل طفله بها.
بقصد أو من دون قصد، سواءً كنت مدركاً أو غير واع بهذا، لا يهم.. الآن أدركت، والآن يجب عليك تصحيح المسار، الوقت ليس متأخراً بعد، حتى إن بلغ ابنك وصار يملك أسرته الخاصة، يمكن لاعتراف صريح واعتذار بليغ أن يغسل الذكريات الأليمة، ويطيب الجروح الدفينة، يجنبه مصيراً محتملاً أن يتخذ من مثل تلك الإساءات وسيلة مماثلة مع أبنائه.
أما من لا يزال أبناؤهم تحت رعايتهم فاجتهدوا أن تملأوها بالحب والاحتواء، لا تبخلوا عليهم بالمدح. ذكروهم دوماً بحبكم لهم وثقتكم بهم، وشاركوهم اهتماماتهم، حثوهم على فعل ما يحبون، ويجعلهم يشعرون بشكل جيد تجاه أنفسهم.
ازرعوا فيهم الثقة في قدراتهم، أثنوا على مواهبهم، واعملوا معهم على إنمائها، أنصتوا باهتمام لأحاديثهم وهمومهم، واحرصوا على أن تقيموهم هوناً بالحكمة والموعظة الحسنة.
"حاولوا أن تقدموا أفضل طفولة ممكنة لأولادكم.. ليس بالضرورة أكثر ترفاً أو ثراء، ولكن اغمروهم بالحب والدفء والحنان والإسناد.. ذات يوم، سيكون هذا هو كل ما تبقى منكم، في داخلهم" د. أحمد خيري العمري.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.