منذ فِطامه، زحفت خيوط غليظة نحو قنوات فطرته الصغيرة، التفّت حولها واشتدت وضغطت، حتى انقطع الاتصال بين سائر مكونات باطنه.
كلما صادف أشباهاً له لكنهم أقدم وأعلى منه، أضافوا خيوطاً تُزاحم أعصابه، تنغرز في انحناء كيانه وتنعقد، حتى تحول إلى دمية معلقة.
كثرت الخيوط والعُقد وهو لا يحسها، لا يتعرف عليها ولا على مصادرها، قنوات دخيلته مسدودة، لا شيء في كيانه يُفضي إلى شيء.
صار كومة أشتات ذاهلة، كأنه الخلية المجهرية الأولية، استجابتُها لجميع المحسوسات والأحوال والمؤثرات والتقلبات من حولها استجابةٌ واحدة ثابتة بتلقائية لا ملامح لها.
الخيوط شملت إرادته وذاته، خنقت شرايين خياله وأحلامه وأطبقت على منابع تصرفاته ومبادراته، كلما ازداد حجمه بمرور الزمن، تغطت مرابط الخيوط فيه وأماكن عقدها، وبقيت خافية عنه وعن مصادرها التي أرسلتها، ليس للدمية إدراك لها ولا تحكم فيها.
نما وزنه بلا عزم ولا دوافع ولا مرامي، إلا بما يصل أو لا يصل إليه عبر الخيوط ويستقر في عُقَدها.
وبعد انصرام عشرات السنين تنفصل أطراف الخيوط عن أصولها القديمة وتتساقط في اتجاه دُمى جديدة فتملؤها وتنعقد فيها.
امتلأ المكان بدُمى مثل دميتنا ذاك، تستقر وتتمايل وتزحف خَبط عشواء، فتتعثر وتتصادم، لا تملك غير ذلك سبيلاً.
فَتحت أبوابَ المسرح يوماً رياحٌ غريبة قوية اهتزت لها الخيوط بشدة، فانفتحت عينا الدمية على منظر خارج المكان ما رآه قط، رأى شكلاً يطابق شكله، لكنه يعبس ويضحك، يخطئ ويعتذر، يعمل ويرتاح، يكره ويحب، يحتار ويختار، يُقدم ويُحجم.
رأى حركاته وسكناته وكلماته متزنة متسقة بمرونة وطلاقة لا حدود لها.
ظل الدمية ينظر ويُرجعُ النظر، وتحول نظره إلى مراقبة طويلة لذلك الشكل ولمن حوله من نظرائه، وتحولت المراقبة إلى تأمل وتمعن، ثم إلى تعجب، ثم إلى إعجاب بالمنظر، ثم إلى إحساس بالمفارقات.
بدأت تدب فيه مقارنةٌ بين ما يحرك ذلك البعيد وبين ما يحركه هو.
نظر الدمية إلى نفسه يتأمل أجزاءه ويتفحصها لأول مرة منذ كان، ظل يقارن ويتأمل ويقارن ويتأمل، ثم جرب تقليد ذلك الذي يتقن الحركات والسكنات والأصوات بتلك السرعة والمهارة والانسجام، مكث مُدة يجرب ويتأمل ذلك الكيان واجتهد في جمع أطرافه لعله يهرول.
انقضى وقت في المحاكاة أخذ بعده يرفع ركبته وساقه عالياً، ثم ينقل الثانية، ويحرك معها يديه، وبدأ يتحرك، لكن خيوطه بكثافتها واشتدادها وعقدها عرقلته فهوى.
كان هذا أول وقوع من ذات نفسه في حياته، وكان قوياً مُزلزِلاً لكل أوصاله، حتى الخيوط اهتزت حتى انحلّ إحكام عقدها بداخله، وخف اختناق قنواته الفطرية المدفونة، فأخذت تتفتح وتتسع قليلاً قليلاً، ومع انفراجها بدأت تتدفق فيها وبين أطرافها ذبذبات وإشارات.
حصل بعدها أمر فريد..
ارتج الدمية بألم غريب، ليس مصدره كالعادة من خارج جسده، بل كان ينساب من داخله، ومع الألم تولدت حرارة لطيفة وكثيفة، طافت بأعضائه وأطرافه الباردة الجافة، وغطت كيانه قشعريرة دفعت بقطرات دافئة في عينيه.
أحس الدمية بذاته وبحجمه وبمكانه وبباطنه وظاهره، اهتز رأسه للدفء الجديد فأغمض عينيه وفتحهما مرات، وإذا به يسترجع هذا الذي حصل له ويتصوره داخل رأسه، ثم أخذ يفكر فيه، ثم تحول تفكّره إلى رغبة في معاودة الحركة الأخيرة.
وفارت رغبته وتحركت فيه إرادة شديدة ليدفع الأرض بقدميه، فإذا به يفعل، ومن فَرط حركته قفز وارتفع، ثم قفز وارتفع، وجعل يقفز ويرتفع مرة أخرى ورابعة وخامسة، والخيوط تتقطع وعقدها تنحل متوالية، فتفتحت باقي القنوات.
الخيوط التي تقطعت اختفت بلا أثر، كأنها كانت -كديدان طفيلية- تعيش من جسده وعليه، فلما انفصلت عنه ولم تجد غيره انتهت وتلاشت، ومعها كل العلل، وتسارعت الدماء في العروق، ولأول مرة يضحك الدمية بعضلات وجهه وصدره بل بجسمه كله، يمشي بخفة الطير ويرقص ويحس بدفء جريان الحياة ورطوبتها في قنوات جسده، وإذا به يتطلع فيفهم ويتخيل ويبادر ويتمتع، يَرضى ويرفض، يأخذ ويعطي، يصيح ويهمس.
نظر الدمية حوله بعينين مبتلتين وجسد نضر منتصب، فإذا دُمى أمثالُه كانت تقلده فتقطعت خيوطهم وتلاشت، وانطلقوا مثله بأوجه جديدة وأجساد مختلفة جميلة وأصوات واضحة مفهومة، ينفُضون بواقي الخيوط، وكأن أوزانهم اختفت معها، وتبدت الدنيا من حولهم على حقيقتها رحبة رائعة مطواعة مضيئة، كأنهم وُلدوا من جديد وفي دنيا جديدة، مثلما تنشقُّ الشرنقة الهامدة عن فراشة طيارة فاتنة.
وذابت واختفت بوابات وجدران المسرح مع الخيوط، وصار مَن في داخله وخارجه سواء.. ووُلد إنسان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.