التنمية البشرية حقيقة وُجدت عبر الأزمنة بطرق مختلفة، وإن اختلفت أسماؤها وسبلها.
يعمل هذا المجال على التركيز على الإنسان ورؤيته كعنصر مهم في الكون والاستثمار به، فإذا تطور الفرد تطورت أسرته ومجتمعه ووطنه؛ حيث يتم الاستثمار به عن طريق تقديم مجموعة دورات تدريبية في مختلف المجالات الحياتية، لرفع مستوى الوعي.
بداية.. بدأ "المدربون" بتقديم دورات في مجالات واضحة وملمّة بحياة الفرد، منها المجال الأسري والتربوي والمهني والشخصي والدراسي، وهذه النقاط الخمس هي أكثر ما يحتاجه الفرد ليرتقي بذاته ويعيش متوازناً.
ثم تعدت الدورات إلى أبعد من ذلك، كيف تصبح سعيداً؟ كيف تكون متفائلاً؟ كيف تجذب أي شيء تريده؟ فن الديكور، دورات جذب شريك الحياة.. تعدّدت التسميات والمواضيع واحدة.
لا بل تعدّى الأمر لتقديم دروس في الصيدلة للباحثين عن عمل في الصيدليات، والمحاور تقريباً دروس مختصرة في المجال، كدورة زراعة الأسنان أيضاً وغيرها؛ حيث يعتبر ذلك إنقاصاً من قيمة التعليم الأكاديمي بطريقة غير مباشرة وإن كانت له سلبياته، والأمثلة المذكورة على سبيل الذكر لا الحصر.
كثرت الانتقادات حول هذا المجال، فمنهم من يراه نصباً واحتيالاً وتجارة وكذباً ولعباً بعقول الناس، ذلك لأن المتدرّب الباحث عن الارتقاء وتطوير نفسه ينجذب للشعارات الرنانة وينخدع بالألقاب الضخمة كـ: كبير المدربين والعمدة والخبير والرائد وغيرهم دون شاهد علميّ واضح على ذلك، وقد يتعدّى اللقب إلى أربع كلمات أو أكثر كلها مجرد تسميات للشهادات التي يحصلون عليها، وتبدأ رحلة المتدرّب يومين أو أكثر من الحماس والتحفيز أين يتم تصوير العالم له على أنه مميّز ومثالي ولا شيء مستحيل به، فإذا ما خرج له وأراد تطبيق ما تعلّمه، يجد نفسه غريباً عن مجتمعه مهاجَماً ومحط سخرية من الجميع، ذلك لأن كل ما يخبرهم به أو يفعله بعيد كل البعد عن الواقع!
زمن النقطة السوداء وسط الورقة البيضاء قد ولّى، أين يتم وصف الذي يرى النقطة السوداء بدل أن يلفت انتباهه بياض الورقة بأنه شخص سلبي، مع أن أي شخص عادي سيتعجب ويتساءل عن ماهية تلك النقطة، أو كالذي يضع كأساً مملوءة للنصف بالماء وينتظر أن يخبره المتدرّب بأنه يرى كأساً مملوءة للنصف، مع أن أول سؤال يتبادر لذهن أي شخص أين ذهب النصف الآخر للماء؟!
فالإنسان الذي يرى النقطة السوداء والنصف الفارغ من الكأس واقعياً ولا يحب الكذب على نفسه وتعاطي المخدر الروحي الذي يجعله يرى الجمال في القبح والإيجابية في ما هو سلبي، بل يرى الواقع واقعاً ويتفنن في التعامل معه، وإحداث التغيير الذي يجب، حسب مستواه وقدرته وموقعه.
تسعى التنمية لتغيير إنسان بمجرّد حضوره دورة وتطبيق ما جاء بها من تمارين وهذا -تقريباً- مستحيل، فمشكلة مجتمعاتنا أكبر من أن تغيرها دورات حماسية مليئة بالشعارات، فهي مشكلة قناعات ومعتقدات ترسخت وتحجّرت لأزمنة عديدة في الأذهان، والعمل على تغييرها، بل على لفت الانتباه لخطئها يحتاج دراسات عميقة وعملاً شاقاً.
الآن يكفي أن تكون لديك شهادة مدرب وبحث بسيط على الإنترنت لتقدم دورة في أي مجال شئت وإن لم تكن ذا خبرة به، مما جعل هذا المجال يتحول إلى مهنة من لا مهنة له!
بما أن المجال يقدّم الكثير من الوعود للناس بتغيير حيواتهم نحو الأفضل، فالأجدر أن يكون كل مدرب ملماً بما يقدّمه تدريباً وخبرة وتجربة، فمن الجنون أن يقدم شخص أعزب أو مطلّق دروساً عن الحياة الزوجية السعيدة، أو شخص لا يملك أولاداً يقدم دروساً عن كيفية التعامل معهم، أو آخر لم يُدِر مشروعاً بحياته ويعلّم الناس عن إدارة المشاريع، كالذي يبيع للناس ما لا يملكه، بما أنه يتقاضى أجراً على ذلك.
هناك أناس فشلوا أو سلكوا الطريق الخطأ في حيواتهم، وهذا أمر طبيعي يحدث لأي كان، لكن من غير الطبيعي أن تكون الدورة التدريبية فرصة لجعل المتدرّبين يستفيدون من أخطاء مدرّبهم، بل هي فرصة لإكسابهم خبرات ومهارات قد جُرِّبت منهم أو من طرف شخصيات موجودين على أرض الواقع في مجتمعنا نحن.
كما أن إعطاء الأمثلة عن أشخاص "أجانب" نجحوا بعد فشل، ليس محفزاً للمتدرّب هنا لأن يتفاءل ويحقق المستحيل، فالمجتمع في الخارج وإن كان به إحباط وتثبيط لعزائم الفرد، فإنه لا يتعدّى حجم الإحباط في مجتمعاتنا العربية بصفة عامة.
إخبار المتدرّب بأن ليس هناك مستحيل وبأنّه يمكن أن يصبح كأحد "كبار المدربين" أو كـ"ثاني أغنياء العالم" مثلاً سيعطيه جرعة مؤقتة من الأمل، لكنها سرعان ما تزول؛ لأن تلك التحفيزات لا توافق قدراته ومواهبه، نعم يمكن للإنسان أن يصنع تميّزه لكن حسب ما يملكه ويمكنه العمل عليه لتطويره.
بعد أن كانت رسالة التنمية البشرية الحقيقية هي التطوير والتغيير، أصبح المستفيد الأول هو المدرّب، من الناحية المادية، كالذي يؤلف كتاباً كيف تصبح غينيا في 30 يوماً ويصبح هو الغني في 30 يوماً، بل هناك من يشترط على النّاس دفع مبالغ خيالية أو الحضور لدورة كاملة ربّما ليسوا بحاجة لها لمجرّد الحصول على معلومة أو تقنية قد تأخذ بأيديهم وتغير حيواتهم للأبد، وهنا تفقد التنمية فعلاً رسالتها النبيلة.
لكل مجال إيجابياته وسلبياته، لكن الفرد بعد تعرضه للفشل والإحباط وتجريبه لكل ما يمكن أن يطور به نفسه، يلجأ أخيراً لدورات التنمية البشرية التي يأمل أن يجد فيها ما يبحث عنه، فمن غير الممكن أن توجد بهذا المجال السلبيات التي يفترض بها أن لا تكون، كتعجيزه -مثلاً- بمبلغ مالي ضخم مع عدم مراعاة ظروفه، مع أنه لو لم يكن طالبَ علمٍ فعلاً ويسعى للتطوّر والتطوير لما لجأ لهذا المجال ليطلبه بحق.
و هذا لا يمنع من أن للمجال إيجابياته، لكن البعض أفقدوه قيمته، فهناك العديد من المدربين الذين يعملون بكفاءة وإخلاص ولا يبخلون على متدرّبيهم بمعلومة أو مساعدة أو استشارة حتى بعد انقضاء الدورات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.