يزداد وضع فصائل المعارضة السورية تعقيداً مع دخول الثورة السورية عامها السادس، وسط اضطرابات وانقسامات داخلية، وفي ذات الوقت تعرضها لضغوط خارجية من قبل دول تلعب دوراً كبيراً في الملف السوري من الناحيتين السياسية والعسكرية.
وتغير المشهد العسكري لهذه الفصائل خلال السنوات الماضية نظراً لعوامل عدة، تحدث عنها الباحث الأميركي البريطاني في معهد الشرق الأوسط، تشارلز ليستر، في مقال نشره بصحيفة "فورين بوليسي" الأميركية، متحدثاً عن وضع صعب لتلك الفصائل وتضاؤل الخيارات أمامها، بالتزامن مع تصاعد لجماعات "متشددة" على الأراضي السورية مناهضة للنظام.
ويتحدث الباحث في مقاله عن مستقبل علاقة فصائل المعارضة بشكل خاص مع تنظيم "جبهة النصرة" التي تمثل فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وقد غيرت اسمها لتصبح جبهة فتح الشام، وذلك في شهر تموز/يوليو من سنة 2016، قبل أن يتحول اسمها لهيئة تحرير الشام.
وقد مرت علاقة فصائل المعارضة مع "النصرة" بمراحل مختلفة ولا سيما الاقتتال الأخير الذي حصل بينهما، والذي تراه فصائل الجيش السوري الحر أنه محاولة للقضاء عليها من قبل "جبهة النصرة"، ويقدم الباحث استقراءه لشكل هذه العلاقة، معتقداً أن لدى المعارضة قناعة بأن وقوفها بوجه "تحرير الشام" دون دعم دولي لها سينجم عنه حمام دم، فضلاً عن أنه نظراً لفشل الحل السياسي فإن المعارضة ستحتاج قريباً لتغليب الخيار العسكري، وعليه فإنه لن تستطع تجاهل "هيئة تحرير الشام" نظراً لأن التنسيق عسكرياً معها لا غنى عنه.
نص المقال
وسط كل هذه التحديات، دخلت المعارضة السورية في نفق مظلم من الاضطرابات وتنامي حالة الشك والانقسامات الداخلية. فبعد أن واجهت هذه المعارضة المعتدلة التي لا علاقة لها بتنظيم القاعدة ضغوطاً كبيرة ومنسّقة من قبل الأردن والسعودية في الجنوب، وتركيا وقطر في الشمال، وتضاءلت أمامها الخيارات، اضطرت هذه المعارضة لإظهار بعض الواقعية والموافقة على حضور المحادثات السياسية في كازاخستان وسويسرا، على الرغم من أن أنصارها كانوا منقسمين حول هذه الخطوة التي اعتبرت مؤشراً على جاهزيتها للتنازل عن بعض المسائل. وقد توقع قليلون فقط أن تنجح هذه المحادثات.
من جهة أخرى، تشهد المعارضة السورية المسلحة أيضاً تغييرات عميقة، نتيجة للضغوط الداخلية، إذ أن جبهة النصرة التي تمثل فرع تنظيم القاعدة في سوريا، قد غيرت اسمها لتصبح جبهة فتح الشام، وذلك في شهر تموز/يوليو من سنة 2016، قبل أن يتحول اسمها لهيئة تحرير الشام بعد انضمام العديد من المجموعات المعارضة إليها في شهر كانون/الثاني يناير من العام الجاري. وقد أظهرت هذه المجموعة في السابق عزيمة صلبة وصبرا كبيرا أثناء سعيها لتحقيق أهدافها، التي تتمحور حول توحيد جميع فصائل المعارضة السورية المسلحة تحت المظلة الدينية التي تحملها. وقد وصف تنظيم القاعدة هذا الهدف في عديد المناسبات بأنه رغبة في "توحيد الصفوف".
في الذكرى السادسة لاندلاع الثورة السورية، تشهد المعارضة المعتدلة حالة غير مسبوقة من الضعف، فيما يتزايد حضور المجموعات المتطرفة.
بعد مرور ست سنوات على اندلاع الصراع في سوريا، شهد هذا البلد وشعبه تحولات جذرية، حيث أدت هذه الحرب إلى مقتل نحو نصف مليون شخص، وأجبرت قرابة 11.5 مليون مواطن على مغادرة منازلهم. وفي الوقت الراهن، يعيش الشعب السوري حالة من الشتات فضلا عن الانقسامات الداخلية في بلد يتسم بتنوع عرقي وطائفي كبيرا. وعلى الرغم من أن معظم السوريين حاول الصمود وعدم مغادرة البلاد، إلا أنه من غير الممكن تجاهل حالة الانشقاق العميقة ودوامة العنف التي تعيش في ظلها البلاد، التي كانت في يوم ما تتميز بمزيج متجانس من كل الأطياف.
وفي العديد من المناطق السورية، لا تزال معالم الانقسام والتقاتل واضحة في هذه القرى التي كانت تعيش في كنف الانسجام. كما أن النعرات التي كانت تثيرها المجموعات المتطرفة فقط من أجل تحقيق أغراضها، أصبحت الآن بمثابة عامل حاسم في تشكيل مواقف المعارضة.
في الحقيقة، تعود جذور هذا المشكل بالأساس إلى مواقف رئيس النظام السوري، بشار الأسد الذي سارع إلى وصف المظاهرات السلمية التي اندلعت ضده في سنة 2011 على أنها "مؤامرة خارجية". في الواقع، كان يقود هذه المؤامرة التي زعم الأسد وجودها في منتصف سنة 2011، مجموعة من المسلحين السنة المتطرفين، عدد كبير منهم تم الإفراج عنه من سجون النظام في كل من شهر آذار/مارس وأيار/مايو وحزيران/يونيو في تلك السنة. وبالتالي، ومن خلال توصيفه الطائفي للأزمة التي اندلعت حينها، وتنصيب نفسه كمدافع عن الأقليات في سوريا، لم يتمكن الأسد فقط من ضمان دعم أبناء طائفته، بل تأكد أيضا من صعود العناصر المتطرفة في صفوف المعارضة ونجاحها في التسويق لرؤيتها الطائفية للوضع، بما يخدم مصلحته.
وفي الأثناء، تمر المعارضة السورية بأضعف فتراتها منذ سنة 2012، خاصة وأن جميع المؤشرات والظروف الدولية لا تصب في مصلحتها. فقد تراجعت الولايات المتحدة عن شرط "رحيل الأسد عن سوريا"، وانصب اهتمام الأمريكيين على مشاكلهم الداخلية منذ الانتخابات الرئاسية. كما أن أوروبا منشغلة، هذه الفترة، بقضية تدفق اللاجئين وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيما قامت تركيا بإبرام صفقة مع روسيا تنازلت بموجبها عن حلب. وفي الوقت ذاته، نجحت موسكو وطهران ومليشيا حزب الله في زيادة وتأكيد التزامها العسكري نحو نظام الأسد لتضمن بذلك بقاءه في السلطة.
وسط كل هذه التحديات، دخلت المعارضة السورية في نفق مظلم من الاضطرابات وتنامي حالة الشك والانقسامات الداخلية. فبعد أن واجهت هذه المعارضة المعتدلة التي لا علاقة لها بتنظيم القاعدة ضغوطا كبيرة ومنسّقة من قبل الأردن والسعودية في الجنوب، وتركيا وقطر في الشمال، وتضاءلت أمامها الخيارات، اضطرت هذه المعارضة لإظهار بعض الواقعية والموافقة على حضور المحادثات السياسية في كازاخستان وسويسرا، على الرغم من أن أنصارها كانوا منقسمين حول هذه الخطوة التي اعتبرت مؤشرا على جاهزيتها للتنازل عن بعض المسائل. وقد توقع قليلون فقط أن تنجح هذه المحادثات.
من جهة أخرى، تشهد المعارضة السورية المسلحة أيضا تغييرات عميقة، نتيجة للضغوط الداخلية، إذ أن جبهة النصرة التي تمثل فرع تنظيم القاعدة في سوريا، قد غيرت اسمها لتصبح جبهة فتح الشام، وذلك في شهر تموز/يوليو من سنة 2016، قبل أن يتحول اسمها لهيئة تحرير الشام بعد انضمام العديد من المجموعات المعارضة إليها في شهر كانون/الثاني يناير من العام الجاري. وقد أظهرت هذه المجموعة في السابق عزيمة صلبة وصبرا كبيرا أثناء سعيها لتحقيق أهدافها، التي تتمحور حول توحيد جميع فصائل المعارضة السورية المسلحة تحت المظلة الدينية التي تحملها. وقد وصف تنظيم القاعدة هذا الهدف في عديد المناسبات بأنه رغبة في "توحيد الصفوف".
وبفضل تحرره من أي التزامات مع المجتمع الدولي، واستفادته من تراجع قوة المعارضة المعتدلة، عمل تنظيم القاعدة خلال الفترة الممتدة بين سنتي 2012 و2015 على مد جسور الثقة بينه وبين المعارضة، تحت راية جبهة النصرة. وقد مثلت هذه المرحلة أول لبنة ضمن مساعي التنظيم للتموقع داخل صفوف المعارضة. وفعلا، نجح هذا التنظيم في ترسيخ وجوده كعنصر من مكونات المعارضة السورية الثورية المسلحة، معتمدا في ذلك على التكتيكات الواقعية، واستراتيجية عسكرية ثابتة. علاوة على ذلك، ركز التنظيم على السكان المحليين وذلك بغية تعويد السوريين على قبول هذا التنظيم ثم مساندته والدفاع عن بقاءه.
في الواقع، سعت جبهة فتح الشام من خلال تغيير اسمها في منتصف سنة 2016، وتوجيه خطاب للسوريين مفاده أنها قطعت علاقاتها مع تنظيم القاعدة، لتجاوز آخر عقبة تواجهها نحو "توحيد الصفوف"، وإقناع عدد كاف من المعارضين السوريين بأنها تعد حركة سورية أصيلة، ومتفانية في خدمة القضية المحلية، ولا تحمل مشروعا متطرفا دوليا.
على العموم، مكن هذا الجهد الإعلامي تنظيم القاعدة من إحراز بعض التقدم، ولكنه لم ينجح لحد الآن في تحقيق هدفه المنشود، فقد قامت القاعدة بثلاث محاولات متتالية في أواخر سنة 2016 وبداية سنة 2017، للقيام بعمليات دمج وتوحيد لفصائل المعارضة، إلا أنها باءت بالفشل وانتهت بتحقيق عملية اندماج واحدة.
أما بالنسبة، لحركة أحرار الشام السلفية التي تركز على أهداف وطنية سورية، والتي تمثل أهم الحلفاء العسكريين لجبهة فتح الشام، فقد كررت رفضها لمقترح الوحدة، معللة هذا الرفض بأن جبهة فتح الشام لم تقم بما يكفي لإثبات انفصالها عن تنظيم القاعدة. وقد أطلق هذا الموقف العنان لمعركة كلامية واشتباكات متكررة بين الطرفين، وقد تطور الأمر لدرجة أن جبهة فتح الشام شنت هجمات منسّقة ضد فصائل من المعارضة في شمال سوريا.
ونتيجة لذلك، هددت حركة أحرار الشام برد انتقامي لا يفرق بين أحد من مكونات جبهة فتح الشام، مما اضطر العديد من الفصائل الكبيرة في سوريا إلى الدخول تحت مظلة أحرار الشام بحثا عن الحماية، فيما أجبرت جبهة فتح الشام بعض الفصائل الأخرى على الانضمام إليها تحت المسمى الجديد وهو "هيئة تحرير الشام". وفي الأثناء، أدى الانقسام الحاد بين هذه الفصائل، إلى تقسيم المعارضة السورية في شمال البلاد فعليا إلى ثلاث مجموعات متناحرة.
وتجدر الإشارة إلى أن كل من هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام تمثلان أقوى الأطراف العسكرية في هذه المنطقة، حيث تضم الأولى ما بين 12 ألف و14 ألف مقاتل، وتضم الثانية ما بين 18 ألف و20 ألف مقاتل. في المقابل، تحول الجيش السوري الحر إلى طرف ضعيف في هذه المعادلة ولم تبق تحت قيادته إلا بعض المجموعات التي لا تزال متمسكة بالأهداف الأصلية للثورة السورية ضد نظام الأسد.
وفي خضم هذه التوترات والصراع بين جبهة فتح الشام التي تحولت إلى هيئة تحرير الشام من جهة، وحركة أحرار الشام من جهة أخرى، قررت هذه الأخيرة الانضمام إلى الجيش السوري الحر وتبني خطابه المعتدل من أجل العمل على تحسين صورتها والنأي بنفسها عن الفصيل المرتبط بتنظيم القاعدة.
من جانب آخر، لا تزال هيئة تحرير الشام تؤمن بالأهداف الجهادية الدولية التي وضعها التنظيم الأم لها في سوريا، على الرغم من أنها تضم الآن مجموعات أقل تطرفا من تنظيم القاعدة. وتتمثل هذه الأهداف بالأساس في "إعلان إمارة إسلامية ستكون مركزا لبناء الخلافة العالمية التي يريدها التنظيم". في الوقت نفسه، حافظت حركة أحرار الشام أيضا على نمطها المحافظ وهويتها الإسلامية، ولكن ليست لديها أية أهداف خارج حدود سوريا.
وخلال حوار صحفي أجراه مؤخرا، أكد تنظيم القاعدة أنه يؤمن بالمشاركة السياسية، ولا يرفض اعتماد نهج الديمقراطية، وقد يشارك في أي "استفتاء شعبي" كما أنه لا يعارض أي قرار سياسي في المستقبل يوافق عليه الشعب السوري.
وعلى الرغم من هذه الخلافات السياسية والإيديولوجية المعلنة بين هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام والجيش السوري الحر، تواصل هذه الأطراف الثلاثة تمسكها بالكفاح المسلح كوسيلة لإسقاط نظام الأسد. ولكن، في ظل الموقف الإقليمي والدولي الذي يضع الجيش السوري الحر وحركة أحرار الشام تحت ضغط كبير للالتزام باتفاق وقف إطلاق النار الذي فَقدَ مصداقيته وتأييده الشعبي، فإن أسلوب هيئة تحرير الشام التي تصمم على مواصلة القتال، مكنها من تحقيق مكاسب شعبية وضمان ثقة وولاء الناس على الميدان، خاصة وأن أسلوبها القتالي المتحرر من أية ضغوط خارجية أو قواعد في هذه الحرب الدائرة، بصدد كسب المزيد من الأنصار يوما بعد يوم.
روايات متضاربة
في الواقع، يواجه مشروع تنظيم القاعدة الجهادي في سوريا تحديا غير مسبوق، خاصة في ظل إصرار المجتمع الدولي المتزايد على إيجاد حل للأزمة السورية بأي ثمن، وتصاعد وتيرة الحرب ضد تنظيم الدولة وبقية المجموعات الإرهابية التي أصبحت في مقدمة اهتمامات الولايات المتحدة وأوروبا. خلافا لذلك، نجح تنظيم القاعدة في بناء قوة دفاعية فعالة لا يستهان بها، من خلال مواصلة التأكيد على أجندته المحلية، وقيامه في عدة مناسبات بشن هجمات على مجموعات مناوئة له.
والجدير بالذكر أن هذا النجاح يعود في جزء كبير منه إلى موقف تنظيم القاعدة المتصلب حيال القتال ضد بشار الأسد، وذلك يمثل في حد ذاته عنصر جذب للعديد من الأنصار من قواعد مجموعات المعارضة السورية المسلحة والمدنية الأخرى. أما بالنسبة للمجموعات التي تتمتع بعلاقات دولية جيدة في خارج سوريا، فينظر لها على الميدان على أنها تنازلت ورضيت الخضوع لإملاءات خارجية، علما وأن هذه المجموعات لا تزال تدعم مسار التوصل لاتفاق سلام مع النظام.
من جهتها، صبت جبهة فتح الشام أو هيئة تحرير الشام كما باتت تسمى الآن، جام تركيزها على خوض قتال عنيف وفعّال ضد النظام، وهو ما أكسبها مصداقية وشعبية على حساب المجموعات التي كانت أكثر براغماتية.
في المقابل، لا تحظى الهجمات التي شنتها جبهة فتح الشام أو هيئة تحرير الشام ضد بقية الفصائل المعارضة بدعم شعبي في صفوف أنصار المعارضة السورية. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن حماس هذه الجبهة لخوض قتال حتى النهاية ضد نظام الأسد وداعميه روسيا وإيران، يجعل الرأي العام يتناسى أخطاؤه المذكورة سلفا.
من ناحية أخرى، تواصلت الغارات الجوية العنيفة ضد الأحياء السكنية في مناطق سيطرة المعارضة، بصفة يومية، على الرغم من تأكيد المجتمع الدولي على التمسك باتفاق وقف إطلاق النار والتقيد بتنفيذه. وقد ساهم ذلك في تغذية مشاعر الكره في صفوف المواطنين السوريين تجاه نظام الأسد. ولذلك، وجدت المعارضة نفسها في موقف حرج وغير قادرة على تبرير خياراتها نظرا لخوضها جملة من المحادثات مع النظام خارج البلاد، مع العلم أنها كانت في حاجة ماسة للمحافظة على الدعم الدولي ومصداقيتها أمام الخارج.
وفي لقاء مع أحد قادة المعارضة المشاركين في محادثات أستانة وجنيف، أفاد هذا القائد الذي رفض الكشف عن اسمه، أن "كل لقاء نشارك فيه لا يسفر عن أي نتيجة تذكر، باستثناء جلب المهانة والمذلة لثورتنا. لا يمكننا مواصلة حضور هذه الاجتماعات إلى الأبد، تماما كما لا يمكننا أيضا التخلي عن معركتنا ضد نظام الأسد".
وعلى ضوء هذه التصريحات، يمكن الجزم بأن المعارضة السورية المسلحة تتعرض لضغوط هائلة في الداخل، وهو ما دفعها لتبني موقف جماعي برفض حضور آخر جولة من المحادثات في أستانة، التي انطلقت في 14 آذار/مارس الجاري، وكان من المفترض أن تستمر إلى حدود موعد ذكرى اندلاع الثورة السورية، أي في 15 من هذا الشهر.
وفي خضم هذه التجاذبات، حافظت هيئة تحرير الشام على موقفها المتصلب والرافض لهذه المحادثات أو أي مقترح بالتنازل والتسوية. وفي الوقت ذاته، نفذت عمليتين انتحاريتين معقدتين في عمق أراضي النظام السوري، استهدفت الأولى مركزا عسكريا واستخباراتيا في مدينة حمص في 25 من شباط/فبراير، والثانية كانت ضد حافلات تقل زوارا من العراقيين الشيعة القادمين إلى دمشق في 11 من آذار/مارس.
وقد أسفر هذين الهجومين عن مقتل 116 شخصا، في حين دفع الهجوم على العراقيين الشيعة، أوساط الطائفة الشيعية إلى إطلاق صيحات استغاثة في العراق، دعت من خلالها القوات الجوية العراقية لتوجيه ضربات لهيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا. فضلا عن ذلك، تم تنفيذ هجوم ثالث ضد قصر العدالة في دمشق بمناسبة الذكرى السادسة لاندلاع الثورة السورية، وقد أكدت ثلاث مصادر مختلفة أن هيئة تحرير الشام تقف وراء هذا الهجوم.
الأفعال تعبر أكثر من الكلمات
تواصل هيئة تحرير الشام اختزال الصراع الدائر في سوريا في معركة بين السنة والشيعة. ووسط حالة من الانقسام والاحتقان والبحث عن الأمل، تحظى هذه المقاربة المتطرفة، التي تعود إلى قرون خلت، بدعم شعبي متزايد.
وفي السياق ذاته، أخبرني عبادة القادري، وهو ناشط سياسي تم اختياره ضمن الشخصيات المائة الأكثر تأثيرا في مجلة "تايم" في سنة 2014، الذي يدير الآن محطة راديو تابعة للمعارضة المعتدلة، أن رؤية هيئة تحرير الشام للأوضاع تجد صدى بين السوريين. وفي هذا الصدد، أكد القادري، أن "هيئة تحرير الشام تستعمل خطابا وأسلوب تفكير مختلف عن نسختها السابقة، أي جبهة فتح الشام، حيث تقدم حججا منطقية يتفق حولها كل السوريين، خاصة فيما يتعلق بالموقف السلبي للولايات المتحدة تجاه الثورة السورية. يكتسب هذا الخطاب جاذبية متزايدة، كما أن الهيئة اعتمدت أسلوبا منطقيا لتبرير استهدافها للشيعة، مستفيدة من مشاعر الكثير من أبناء الطائفة السنية في سوريا. وبذلك نجحت في تجسيد مدى قوتها وتقديم نفسها على أنها الوحيدة القادرة على الدفاع عن السوريين".
ومن جهتهم، أكد العديد من القادة البارزين في الجيش السوري الحر، على غرار الناشط والمستشار القانوني، أسامة أبو زيد، على أن الثورة السورية لم تكن أبدا تهدف إلى التقسيم الطائفي. وفي الأثناء، اعترف أغلبهم بأن هيئة تحرير الشام، بفضل فعاليتها على الميدان وتحركها وراء خطوط العدو، نجحت في تقديم أداء متميز كسبت من خلاله إعجاب الكثير من السوريين.
وفي هذا الإطار، أورد أسامة أبو زيد، أن "كل عملية نوعية تؤدي لسقوط قتلى في صفوف قوات النظام والمليشيات المساندة له تحظى بالترحيب الشعبي، لأن هذه المليشيات ينظر إليها من قبل الشعب السوري على أنها محتلة وتهدف لإدخال تغييرات على الخارطة الديمغرافية في مختلف أنحاء البلاد. فعلى سبيل المثال، رفعت قوات الأسد أعلاما شيعية طائفية فوق مسجد الأمويين في دمشق، الذي يكتسي رمزية كبيرة بالنسبة للطائفة السنية. ولكن، نحن لا ندعم أي عملية مسلحة تؤدي لسقوط مدنيين، خاصة إذا كانت تقف وراءها جبهة النصرة".
وفي ظل التزام غالبية فصائل المعارضة المسلحة بوقف العمليات القتالية في انتظار تسوية سياسية، فإن إصرار هيئة تحرير الشام على مواصلة الكفاح المسلح والرد بقوة على النظام السوري في قلب معاقله، من شأنه أن يمكنها من كسب شعبية واسعة ومصداقية عالية.
وبالنظر لإمكانية توقف أي دعم دولي للعمل العسكري ضد بشار الأسد، وهي فرضية تبدو واردة جدا في المستقبل القريب، فإن هيئة تحرير الشام ستقدم نفسها في هذه الحالة على أنها البديل الوحيد الموثوق من أجل مواصلة القتال، وذلك بالنسبة للعديد من السوريين الذي أطلقوا الشرارة الأولى للنضال ضد النظام في شهر آذار/مارس سنة 2011.
مؤخرا، أخبرني رجل الدين السني البارز، رامي الدالاتي، أن "السوريين أصبحوا يثقون في هيئة تحرير الشام أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد تنفيذها للعديد من الهجمات على مقرات المخابرات في حمص ودمشق. وعلى الرغم من أن الهجمات ضد فصائل المعارضة الأخرى تمثل نقطة سوداء، إلا أن هذا الأمر قد انتهى الآن، والناس ضاقوا ذرعا من وجود اثنين أو ثلاثة مجموعات منقسمة، ويريدون تحقيق الوحدة".
الدور الأمريكي
على العموم، فشل تنظيم القاعدة في توحيد فصائل المعارضة المسلحة السورية تحت رايته، على الرغم من الجهود المتواصلة التي يبذلها. وفي الوقت الراهن، وبعد فكها للارتباط الذي كان يجمعها بأكثر أجنحتها تطرفا، الذي انشق وانضم إلى هيئة تحرير الشام في شهر كانون الثاني/يناير، أصبحت حركة أحرار الشام أكثر إصرارا على الوقوف في وجه الاستفزازات التي تقوم بها هيئة تحرير الشام. وفي السياق ذاته، صرح أحد القيادات البارزة في الحركة، أن الاندماج مع هيئة تحرير الشام هو أمر مستحيل ولا يمكن أن يحدث أبدا، بينما اتهم مؤخرا القيادي العسكري، حسام سلامة هذه الهيئة "بخدمة أهداف أعداء الثورة".
أما الدالاتي، الذي لعب دورا فعالا في الضغط على جبهة النصرة لإقناعها بتغيير اسمها إلى فتح الشام، فإنه يحافظ على علاقة جيدة مع قيادة هيئة تحرير الشام. علاوة على ذلك، يرى الدالاتي أن الهدف الأساسي لهذه الهيئة، المتمثل في الاندماج الهيكلي والكلي مع بقية أطياف المعارضة، لم يتحقق على أرض الواقع، ولكن التقارب السياسي يعد أمرا بصدد الحدوث الآن.
مؤخرا، قامت الولايات المتحدة بخطوة، بدا واضحا أنها تهدف من خلالها إلى تعميق حدة التوتر بين هيئة تحرير الشام وبقية مكونات المعارضة السورية. فقد صدر تصريح في 11 آذار/مارس، لتوضيح موقف الولايات المتحدة، التي تعتبر هيئة تحرير الشام وكل الفصائل المنضوية تحتها على أنها تابعة لتنظيم القاعدة، ولكن الغريب في الأمر أن المبعوث الأمريكي الخاص في سوريا، مايكل راتني قد كتب خطابه بأسلوب غير مألوف في الإدارة الأمريكية، شبهه كثيرون ببيانات المجموعات السورية المعارضة.
وفي هذا الصدد، قال لي أحد قادة جبهة تحرير الشام، "لقد بدا ذلك الخطاب كما لو أن أحد قادة الثورة هو الذي كتبه، كل كلمة كانت كما لو أننا نحن السوريون كتبناها، هل كان كاتب ذلك البيان سوري؟ هل كان مسلما؟".
وقد أثارت فقرة معينة انتباه الكثير من السوريين، ورد فيها التالي، "مع كل تغير جديد في واجهتها، تصبح القاعدة أقل اعتمادا على الثورة التي تحاول تدميرها، في حين توجه هجماتها نحو رموز الثورة. وقد شاهدنا هذه الاعتداءات مرارا وتكرارا، حتى أن أعمالهم التدميرية قد طالت أحرار الشام وغيرها ممن هم من أشد المدافعين عن الثورة".
ومن خلال وصفه لحركة أحرار الشام بأنها من المدافعين عن الثورة السورية، علما وأنها كانت في السابق على لائحة المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة، فإن راتني كان يهدف لشيء واحد، وهو صب المزيد من الزيت على النار لتأجيج حدة الانقسامات بين صفوف المعارضة السورية. فقد كانت التوترات بين هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام، في الأشهر الأخيرة، في جزء منها، نتيجة للاتهام هيئة تحرير الشام حركة أحرار الشام بالولاء لأطراف خارجية (خاصة تركيا). ومن هذا المنطلق، فقد أعلنت الولايات المتحدة من خلال خطاب راتني، وفي رسالة موجهة ضمنيا لتنظيم القاعدة في سوريا، أن حليفها العسكري السلفي أي حركة أحرار الشام يعد من أكبر المدافعين عن الثورة، في حين اتهمت هيئة تحرير الشام بأنها تسعى لتدمير هذه الثورة.
وبعد وقت قصير من صدور هذا البيان، أقر مسؤول في مكتب المبعوث الأمريكي الخاص في وزارة الخارجية، أن هذا الخطاب كان يهدف فعلا لإثارة زوبعة، حيث صرح، "أردنا أن نجذب انتباه الفصائل المسلحة على الميدان، ونفتح المجال أمامهم للحوار والإدلاء برأيهم، ونظهر لهم أننا نتابع ما يكتبونه باهتمام ونفهم حججهم، ولكن نعلم أيضا متى يكونون بصدد تزييف الحقائق".
وفي مواجهة هذا الأسلوب الجديد، جاء رد هيئة تحرير الشام متأخرا بشكل مثير للقلق، فبعد أسابيع كثيرة من الخلافات الداخلية، شكلت الهيئة مكتبها السياسي المكلف بإدارة الشؤون السياسية. وإثر ذلك، أصدرت بيانا لها يوضح العديد من النقاط التي وردت في تصريح راتني.
وقد نص هذا البيان على أن "هيئة تحرير الشام قد عبرت عن نفسها منذ اليوم الأول لإعلانها، وأكدت على الالتزام بأهداف الثورة المتمثلة في إسقاط نظام بشار الأسد، وعَرفت كيانها على أنه كيان مستقل لا يمثل امتدادا لأي تنظيم أو جهة، وأن الهيئة تمثل مرحلة جديدة من مراحل الثورة السورية وأبنائها هم أبناء هذا الشعب الثائر".
ويشير هذا السجال بين الجانبين إلى أنه بينما غيرت الولايات المتحدة من موقفها نحو تبني خطاب ثوري والاقتراب من صف الثورة السورية، شهد أسلوب رد هيئة تحرير الشام أيضا تغيرا واضحا، حيث أنه ابتعد قليلا عن النمط الديني نحو المعجم السياسي. في الواقع، لم يتضمن هذا البيان آيات قرآنية، واقتصر فقط على تناول مسائل في صلب الموضوع السياسي، وأكد على أن هوية هذه الهيئة وأهدافها هي سورية بحتة.
من ناحية أخرى، وجهت هيئة تحرير الشام من خلال هذا البيان أربعة اتهامات ضد الولايات المتحدة، بسبب ارتباطها بنظام الأسد وإيران وحزب العمال الكردستاني وروسيا، واتهمت أيضا واشنطن بالسعي لإجهاض الثورة. ومن الملفت للانتباه أنه لم يقم أي ناشط سوري متواجد في الداخل أو في أوروبا بانتقاد هذه الاتهامات الأربعة التي أعلنتها هيئة تحرير الشام.
ما الذي يخبئه المستقبل؟
باستثناء فرضية حدوث زلزال جيوسياسي مفاجئ، فإنه من الصعب رؤية المستقبل دون توقع أن تحظى هيئة تحرير الشام بالمزيد من الفرص لاستغلال الأوضاع، إذ أنه من الواضح أن هجماتها الأخيرة ضد بقية فصائل المعارضة السورية، قد أدت لخلق حالة غير مسبوقة من الارتياب والقلق حول نوايا هذه المجموعة في سوريا. خلافا لذلك، وفي الوقت الحاضر، سيبقى القتال ضد نظام الأسد على رأس الأولويات بالنسبة لكل فصائل المعارضة.
ويبقى العامل المحدد في المستقبل هو العلاقة بين أحرار الشام وهيئة تحرير الشام، ومدى قدرة تركيا على التأثير على هذه العلاقة. فمنذ منتصف سنة 2016، أصبحت أنقرة تعتبر وجود القاعدة في شمال سوريا على أنه تهديد لمصالحها. وفي أغسطس/ آب سنة 2016، انخرطت المخابرات التركية في محادثات معمقة مع كل الفصائل المعارضة في شمال سوريا، بهدف منحهم ضمانات أمنية وتوفير إجراءات حماية، وذلك حتى تتمكن من إبعاد هذه المجموعات عن جبهة فتح الشام، مما سيؤدي تبعا إلى عزلها.
حاليا، تمارس تركيا ضغوطا على المعارضة في شمال البلاد لنقل الأسلحة الثقيلة من مواقع السيطرة المشتركة بينها وبين هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا إلى ريف حلب الشمالي الذي تسيطر عليه قوات تابعة لتركيا. ومن المرجح أن تؤدي مثل هذه الخطوة، بشكل ما، إلى إضعاف هيئة تحرير الشام وخدمة أهداف تركيا في شمال حلب، حيث توجد مجموعات أخرى بديلة غير متطرفة قادرة على المسك بزمام الأمور. وفي الأثناء، قامت هيئة تحرير الشام، مؤخرا، بالتصدي بقوة السلاح لمحاولات بعض المجموعات على غرار جيش الإسلام وأحرار الشام لنقل هذه الأسلحة الثقيلة.
في الحقيقة، يتجسد هذا التوتر بين المعارضة السورية وهيئة تحرير الشام بصورة جلية على أرض الواقع، حيث أدى لسقوط ضحايا وفقدان مناطق فضلا عن الاستيلاء على جملة من الأسلحة، وتشويه صورة هذه المعارضة بسبب الاقتتال الداخلي. ولكن، تدرك المعارضة السورية جيدا أن الوقوف ضد هيئة تحرير الشام دون وجود دعم دولي وحماية قوية، سيترتب عنه لا محالة حمام دم، من شأنه أن يضر كثيرا بالكفاح المسلح ضد بشار الأسد، حتى في حال نجحت المعارضة في هزم هذا التنظيم.
وفي الوقت نفسه، تعي المعارضة المسلحة بمختلف أطرافها، أنها تحتاج للحفاظ على مصداقيتها وشعبيتها على الميدان. وحتى تتمكن من تحقيق ذلك، ستحتاج قريبا لتغليب الخيارات العسكرية على المفاوضات السياسية. وحين يحدث ذلك، سوف تستعيد هيئة تحرير الشام زمام المبادرة، نظرا لأن التنسيق العسكري معها سيكون لا غنى عنه. وفي هذه الحالة، قد لا تتمكن هذه الهيئة من تحقيق هدفها النهائي وهو "توحيد الصفوف"، ولكنها ستنجح في تأمين مكان لها كرقم صعب في قلب الثورة السورية.
"هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Foreign Policy الأمريكية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا".