"مهما كان وحيثما نعيش فإننا نشعر بداخل أنفسنا بأننا غير كاملين، كما لو فقدنا شيئاً يجب أن نستعيده، لكن معظمنا لا يعثر على هذا الشيء أبداً، إما الذين بإمكانهم العثور عليه فلا يجرؤ إلا فئة قليلة للخروج والبحث عنه" (شمس الدين التبريزي).
استوقفتني هذه العبارة بكلماتها الدقيقة في وصف عالم آخر لا نحسه بأيدينا أو نراه بأعيننا، فهو عالم لا يخضع إلا إلى القوانين المادية أو الفلسفية المنطقية، فهو عالم لا يشعر به أحد إلا أنت، عالم تملأه المتناقضات ما بين: الشجاعة والخوف، العفو والانتقام، الرضا والطمع، الحب والكراهية.. وغيرها من الصفات النبيلة والخبيثة التي تشكل وجدان الإنسان، وتبني أفكاره وقناعاته.
في كثير من الأحيان بل معظم أوقاتنا نشعر بأن شيئاً ينقصنا حتى لو أصبح ما نتمناه واقعاً وامتلكناه، ولذلك تحضرني فكرة على حسب ما أعتقد ألا وهي "ليس من الضروري أن كل ما نملكه يسعدنا، وأن كل ما نفتقده يحزننا، سيظل الإنسان يشعر بفراغ داخله بأن لديه شيئاً ينقصه حتى لو امتلك كل شيء سيظل شعور عدم الكمال فرضاً علينا حتى لا نمل كل الملل مما نمتلكه أو نشعر بكل الحزن لما نفتقده".
فكم منا كان لديه هدف أو حلم يريد تحقيقه، وحين وصل إليه وحققه وجد أنها البداية وليست النهاية، وأن خلف جدران هذا الهدف طريقاً طويلاً تملأه الحيطان، حائطاً تلو الآخر، فالسطحي منا يظن حين يصل إلى هدفه أنه حقق النجاح، ويقف عند هذه النقطة فرحاً بأول طوبة وضعها، ونسي أنه بنيان يحتاج إلى الاستمرار فيه، أما الشخص العميق فيعرف أن الصعوبة في الحفاظ على الشيء وليس الوصول إليه..فنجد أن أهدافنا لا تنتهي، وأنها مثل السلسلة، كلما فككنا أو كسرنا عقدة وجدنا واحدة تلو الأخرى، فنرى من استسلم من أول كسر عقدة، ومنا من أكمل الطريق، لكن الغريب أنه لم يصل أحد إلى النهاية؛ لأنها حقيقة مؤكدة سلسلة بلا نهاية، ولكن مَن أكمل الطريق عرف القليل من فكّه لهذه العقد، وقد يكون بالنسبة للآخرين يعرف المزيد عنهم، ولكن القليل الذي اكتشفه هو عالمه الداخلي المليء بكنوز ثمينة كالفطرة أو النفس أو الروح، لا أعلم، إنه عالم كبير وكأنه فضاء أو كون آخر نحن نسبح فيه، فكونه قرر أن يسبح ضد التيار ويشق طريقه لوحده جعله يغوص أكثر، فزاد من عمق طريقه، وأوسع عرضه؛ لأن هناك حقيقة مؤكدة أيضاً هي أن الطريق مهما طال فهو قصير.
أما تلك العقد فهي الأقدار تطوى بداخلها الحكمة الخفية، فالأقدار هي المرآة التي تعكس عالمنا الداخلي وتظهر حقيقتنا ومعدننا، فالقدر لا يحدث على سبيل الصدفة، فالمواقف التي نواجهها تظهر نياتنا وحقيقتنا الداخلية.
لكن ما يحيرني تلك الحقائق التي نعرفها، إنها ليست كلها ثابتة بين حالات البشر وثقافتهم وأعرافهم، فمعظم الحلول لأي مشكلة لا تنطبق على كل الحالات، فكل حالة لها ظروفها، وهذا ما أتعجب منه، فالظروف تخلق حياة أخرى وفكراً آخر إذا استطاع الإنسان أن يقوى عليها ويسيرها وفقاً له، ويحدث هذا عندما نفهم أنفسنا، وهذا على ما أظن حقيقة ثابتة حقاً نصبح أقوى عندما نفهم أنفسنا!
فحين نفهم أنفسنا فإننا نصبح أسياد ملكوت عالمنا الداخلي، وهذا هو الملك الحقيقي بأن تصبح سيد نفسك عارفاً ما لك وما عليك.
فمن المفترض أن الحقائق التي نعرفها اليوم نرفضها غداً، والعكس، وكأنها رسالة من القدير يخبرك بها أن الحياة أوسع مما تتخيل، وأن ما تعرفه مهما بلغ نقطة في بحر، وأنه لا يوجد حكيم كامل، وكل رأي يحتمل الصواب والخطأ.
لكن يبقى السؤال عن الخيال: أنهمله من عقلنا ولا نعتبر له كيانا؟! على ما أعتقد لا، فالخيال أو التأمل أو الإبداع هي جزء منا ليشبع الفراغ الذي بداخلنا ذاك الفراغ الذي طالما يسأل "ما هذا؟ وإلى أين يصل؟"، ولن نشبع من هذه الأسئلة؛ لأنها لوحدها عالم أو بحر كلما اغترفنا منه لا ينقص، وكل منا يغترف على حسب طاقته وقدرته، فنجد من اغترف أكثر في أول شبابه، ومن اغترف في آخر عمره، ومن لم يغترف أصلاً بل أخذ مسحة بيده.
ما أعتقده أنه قد يصبح الخيال حقيقة إذا لم يكن وهماً أو خرافة، وهذا ما يحدده اثنان العقل والقلب؛ حيث ف يمثلان قوة كبرى ألا وهي قوة الوجود، فأنا موجود تعني: أنا أشعر، أنا أفكر، أنا أقرر، أنا حر وبكل هذه المعاني أنا إنسان.
فحين تبصر بعين القلب فإن العالم لم يعد يبهرك أو يخيفك، حينها ستجد عالماً آخر لا نهاية له من العطاء ألا وهو عالمك الداخلي.
فى هذا العالم عليك أن تترك عقلك يتوقع أي شيء، ولا تدع قلبك يتعلق به، فدع القدر يفاجئك، واعلم أن كل شيء مقدر، فما تتمناه وما تحتاجه ستأخذه في وقته، وصدقني إن كل شيء في وقته أحسن، فلا تيأس، فالحياة في كثير من الأحيان تعاكسك، وتجد أنها مسدودة، فأكمل طريقك، فلعلها تختبر إيمانك وحبك لما تريد، فالجهد والصبر والأمل هي مفاتيح أقفال بوابة الحياة، فإذا أتقنتها على قدر ما تستطيع فحتماً ومؤكداً ستصل إلى ما تريد، ففى الحياة بداية لكل شيء، وما النهاية إلا بداية جديدة، لكن أن تستمر في شيء هو قرارك فاعلم أن الصعوبة في التعايش مع القرارات التي نأخذها، مؤلم هذا الشعور حين تكون واقفاً في وسط الطريق أو عنق الزجاجة، فلا تعرف ماذا تفعل أتكمل أم تتراجع؟ وكأنه لا يأس ينفعك ولا أمل يشغفك، مؤلم شعور أنك تائه وعاجز.
فلذا نحن نموت ونحيا في كل لحظة نمر بها من ألم إلى أمل، وحتى مشاعرنا تتجدد وتحيا مع كل تجربة نعيشها سواء فرح أو حزن أيضاً.
فالألم عنوان الحياة، إن أول ما يفعله الطفل حين يأتي إلى هذه الدنيا يصرخ حين أحيا، فمن الألم يخلق الأمل، ولولاه ما كان للأمل معنى، حتى في مشاعرنا تتغير، فكيف بأشخاص كنا نعرفهم ونعاشرهم وحين نفترق وكل منا يذهب لطريقه وصار نحو أهدافه وأحلامه، فما الذي يتغير فينا حين نلتقي مرة ثانية بعد رحلتنا وغزو أنفسنا أكثر حينما فجأة نصير غرباء، وكأننا نتعرف على بعض لأول مرة، كفرحة أول لقاء، حين كان بداخلنا الشغف لمعرفة بعضنا البعض، فما الذي صار لتلك المشاعر؟!
والغريب في اللقاء الثاني إما أن تكون ملوماً أو معاتباً، فكل متوقف على حسب ما اغترفته أو غزوته من نفسك حقاً البيت الحقيقي للإنسان نفسه.
إن عالمنا الداخلي أشبه بالكون، بل الكون نفسه كلما أبحرنا نجد المزيد والمزيد، وما تحدثت عنه لا شيء يضاهيه في بحر هذا العالم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.