يبنا التي لم يكن يربطني بها سوى سؤال كانوا يسألوننا إياه بداية كل عام دراسي جديد في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين: ما هي بلدتك الأصلية؟ تراهم كانوا يسألوننا كي لا ينسى الصغار كما زعمت غولدا مائير أم لإحصائيات خاصة بهم؟
كبرت وكان جوابي دائماً عندما يسألني أحدهم عن اسمي متبوعاً بأنني من قرية يبنا المحتلة، لا أذكر الكثير من حكايات جدي وجدتي عن قريتنا تلك التي أراها في مخيلتي مدينة كبيرة لا قرية تتبع قضاء إحدى المحافظات هو قضاء الرملة، تعلقت بها وحلمت دوماً بالرجوع إليها، أغبط جدي وجدتي ووالدي فقد ولدوا فيها ووطئت أقدامهم أرضها، أغبط والدتي التي زارتها بعد سنوات طويلة من الاحتلال عام 1976 وهي التي لم تكن تعرف عنها أيضاً سوى الاسم ومجموعة من حكايات كان يقصها عليهم الكبار، تحدثني عن تلك اليهودية التي جاءت من ليبيا؛ لتسكن بيتاً ليس بيتها على أرض ليست أرضها؛ لتمنع أصحاب البيت والأرض من دخول بيت جاءوه ضيوفاً؛ ليروا فيه ذكريات آبائهم التي سمعوها منهم، عن شجرة التين التي زرعها جدها في وسط البيت وطعمها الحلو، عن باب البيت الكبير ومفتاحه الحديدي الذي صار فرداً من العائلة يحل معهم أينما حلوا.
لا أبالغ إن قلت إنني أغبط أبا هريرة أيضاً كيف لا وهو صاحب المقام المعروف الذي تشتهر به يبنا؟!
ويبنا لمن لا يعرفها هي قرية فلسطينية مبنية على تلة، وهي قرية ذات موقع استراتيجي احتلها الصهاينة في الرابع من يونيو/حزيران عام 1948، تقع في محافظة الرملة وتبعد 15 كم جنوب غرب عن مدينتها، وتعتبر هذه القرية من أكبر قرى قضاء الرملة، وهي أقرب ما تكون للبلدة منها للقرية.
هجر معظم أهلها إلى قطاع غزة، وتنتشر عائلاتها في جميع مدن القطاع، ويكثرون في مدينة رفح، وقد سمي أحد مخيمات المدينة بمخيم يبنا؛ حيث إن معظم عائلاته من هذه القرية ومن هذه العائلات عائلة فحجان والهمص وأبو عميرة وأبو البيض وعاشور والقططي وعرفة وشلايل وأبو نحلة وأبو عون وطافش وخليفة والعبسي والرخاوي وديب وأبو مرزوق وإبراهيم حسين وعوض الله وأبو هاشم والطويل والعطار والأسمر والعاجز والعيلة وأبو مطر وأبو لبدة والرنتيسي وعواجة وأبو حشيش وأبو قمر وشلايل وجراد.
تحكي رضوى عن رقية التي هجرت من الطنطورة وهي ابنة الثالثة عشرة أو يزيد تماماً كجدتي، أشعر كأنها هي لا بل أنا، أنا التي لم أولد في يبنا ولم أخرج منها قسراً، ليس لي فيها ذكريات، مكاناً أو زماناً، فلمَ يباغتني هذا الإحساس كلما قرأت سرد رقية عن النكبة واللجوء عن الغربة وخسارة الوطن، لا شيء إلا أنني عشت هذا كله.
أنا اللاجئة على أرض وطني قبل اللجوء إلى سواه، أنا التي يسبق اسمها دوماً لقب لاجئة، لقب لم أسعَ للحصول عليه ولا ارتضيته، يلاحقني في كل مكان، يشعرني بشفقة أحدهم وعطفه على تلك المسكينة التي ليس لها وطن تحمل جواز سفره فتحمل وثيقة سفر لدولة أخرى، وإن حملت جواز سفر لفلسطين تظل تلاحق بلقب لاجئة.
لا يعرفون أن الوطن بالنسبة لي هو يبنا، وأن ميلادي هو يوم العودة لأرضها، يبنا ذلك الوطن القريب البعيد، الحلم الكابوس الذي أخشى ما أخشاه أن أرحل دون أن أراه.
فيا كل فلسطينيي الشتات، يا أيها اللاجئون في أرض الوطن والغربة.. ابحثوا عن مدنكم وقراكم، اقرأوا عن عذابات أهلها وصمودهم، عن مأثوراتهم الشعبية وأغانيهم وأهازيجهم، تعرفوا على تاريخها، فعندما نعرف نستطيع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.