أنا خائف

أنا خائف؛ لأنني وحيد بلا سند، لا أقوى على المواجهة، وإن واجه أحدنا يفر الجميع من حوله إذا ارتفع السوط، مكبلين بظل النظام، ومشيئة رب البيت الكبير.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/16 الساعة 02:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/16 الساعة 02:02 بتوقيت غرينتش

كنا نمضي تائهين، تقلبنا الأيام والليالي قانعين بما قسم لنا من جور الوطن، تتأجج بدواخلنا حمى الصمت، والرضا بالعدم.. وُلدنا يوم عرس للخريف، وعلى ألحانه القاتمة مضت أعمارنا.

جاءتني رسالته متأخرة يخبرني فيها أنه رحل، ولن يعود.. هرب من لعنة الوطن إلى جحيم الغربة، وغموض المنقلب.

لم يشعر هاهنا بالأمان، حتى إن أدنى عيش كريم لم يحصل عليه لم يكن مذنباً حين وُلد هنا، ولم يقترف إثماً حين زلت قدماه مرة عن حافة جحره، ولامست يداه سور البيت الكبير.

لم يشأ صديقي أن تنقلب حياته رأساً على عقب، ويمضي كما الضائعين في دروب لا يدرك منتهاها، لم يشأ صديقي أن يترك بيته، وأهله، لم يشأ صديقي شيئاً من هذا كله، لكن شاء الوطن.

الآن أنا خائف.. جدران بيتي تئن خوفاً.. لست أخاف الموت بقدر ما أخاف الحياة.. هاهنا الحياة تزداد سوءاً وقبحاً، وأنا لا أحاول أن أكون أكثر مما أنا عليه.. تمر السنون وأنا في نفس المكان الذي أترك فيه نفسي في كل عام.. حياتي كلها أقضيها في انتظار ما لا يجيء.. ما أعرف أنه لن يجيء.. حالة من جمود الروح، وانعدام الوجود، وتقبل الهزيمة.

لكن أي هزيمة وأنا حتى لم أحاول؟! ربما حاولت في أحلامي مرات ومرات، وفي كل مرة يتملكني وهم المحاولة الأخيرة.. أحلم لا آمل شيئاً من وراء أحلامي لعلمي ماذا يمثل الأمل لشخص أرهقه الواقع؟!

"نحن لا نموت كي يحيا الوطن، لكن نموت كي يحيا أصحاب الوطن".
ما زال يعتريني الوجوم حين أتذكرهم، كنا بالأمس معاً، والآن لا شيء.

مضت سنوات أعمارنا عجافاً لا ربيع لها، كل الذي نعرفه عن الربيع كلمات قرأناها على شواهد القبور.

أنا خائف؛ لأنني وحيد بلا سند، لا أقوى على المواجهة، وإن واجه أحدنا يفر الجميع من حوله إذا ارتفع السوط، مكبلين بظل النظام، ومشيئة رب البيت الكبير.
أنا خائف؛ لأن القانون الوحيد الذي يحكمنا هو اللاقانون، وأن الانكسار والخضوع في بلادي هما الفرق الواهي بين الحياة والموت.

أنا خائف؛ لأن سوطَي التخوين والإرهاب هما تعريفة فرعون البيت لشراء الصمت، الصمت أصبح سلعة رائجة في سوق النخاسة، والدجالون ما زالوا يطرقون كل باب.. الصمت أصبح أسلوب حياة.

أنا خائف؛ لأن بلدتي امتلأت بكلاب الصيد الطامحين لفتات الظالمين، رغم أنهم يعيشون معنا في نفس الجحور فإنهم يقتاتون على لحومنا بثمن زهيد.
أنا خائف؛ لأن وطني كبير جداً ولا يتسع حتى لأنفاسي، وبيتي سجن يحاصرني فيه ما صنعت يداي.. سجان يغتصب كل الأشياء.
أنا خائف؛ لأن أول الغيث كلمة، والسماء عندنا تمطر ألماً وقسوة، والصمت بداخلي بدأ ينسلخ مني رويداً رويداً.
أنا خائف؛ لأن الوقت هنا لا يعطي فرصة أخرى للتعلم، فرصة أخرى للحذر والنجاة، من يقترب من سور البيت الكبير يدرك كل الحقيقة، وأهل البيت لا يحبون من يدرك الحقائق، نتساقط واحداً تلو الآخر ما بين غريب وغائب ومطارد وآخر ربما ارتاح من وجع الحياة.
أنا خائف؛ لأن هذا الطريق آخرته لحن حزين، وأن أحلامنا التي زينت لنا الممكن فقط لا المستحيل سرعان ما ستتخلى عنا، وأن الأمور تصبح أكثر غموضاً حين تقترب من النهاية.

"إذاً هي النهاية" صديقي في المرآة المشروخة يهاتفني دوماً.. ليس هناك أكثر راحة من ألم ينتهي، وألم الوطن لا ينتهي… ما زال ينقصكم أمل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد