جاءت نتيجة الانتخابات الهولندية، التي عُقدت الأربعاء 15 مارس/آذار، كاختبارٍ حاسم للنزعة الشعبوية في أوروبا بعد الأحداث العاصفة التي وقعت العام الماضي، وأبرزها تصويت البريطانيين للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وفوز دونالد ترامب برئاسة أميركا.
وبعد إعلان النتيجة الخميس 16 مارس/آذار، بتحقيق رئيس الوزراء، مارك روته، اليميني المُعتدل انتصارٍاً مدوّياً على خصمه خيرت فيلدرز المُعادي للإسلام وللاتحاد الأوروبي، ساد الارتياح الحكومات الأخرى في الاتحاد الأوروبي، والتي تواجه موجةً عاصفة من النزعات القومية، وفق ما ذكرت صحيفة التلغراف.
ولكن، كانت هناك تحذيراتٌ أيضاً بأنَّ فيلدرز، وباقي رموز التيار اليميني المتطرف في جميع أنحاء أوروبا، لن يتراجعوا بهدوء بعد هذه الهزيمة.
وقال مارك روته لأنصاره وسط هتافاتهم المُؤيدة: "يبدو أن حزب الشعب للحرية والديمقراطية سيكون هو حزب الأغلبية بهولندا للمرة الثالثة على التوالي، فلنحتفل هذه الليلة قليلاً"، وذلك في حفلٍ أُقيم عقب الانتخابات بمدينة لاهاي.
وبلغت نسبة الأصوات الصحيحة 95% من إجمالي الأصوات، وحصل حزب الشعب للحرية والديمقراطية الذي يُمثله مارك روته على 33 مقعداً في البرلمان من أصل 150 مقعداً، وهي نسبة أقل من نسبة الانتخابات السابقة في عام 2012، والتي حاز فيها الحزب 41 مقعداً، ثم جاء حزب خيرت فيلدرز ثانياً بعد فوزه بـ20 مقعداً، وتقاسم حزب النداء الديمقراطي المسيحي وحزب الديمقراطيين الوسطي المركز الثالث بعد حصول كلٍّ منهما على 19 مقعداً، وذلك وفقاً لبياناتٍ نشرتها وكالة الأنباء الهولندية (ANP).
وسارع الزعماء الأوروبيون، الذين شعروا بالراحة بعد تلك النتيجة، بتهنئة مارك روته فور إعلان نتيجة الانتخابات.
وقال مارك: "هذا يومٌ آخر من الأيام التي قال فيها الهولنديون (لا) للنوع الخاطئ من النزعات الشعبوية، وخاصةً بعد حملة بريكست، ونتيجة الانتخابات الأميركية".
لماذا فاز مارك روته؟
ربما استفاد روته، الذي بدا للمتابعين أنَّه يلهث للحاق بخيرت فيلدرز طوال السباق الانتخابي، من الموقف الصارم الذي اتخذه في المواجهة الدبلوماسية مع تركيا على مدار الأسبوع الأخير.
وكانت شرارة هذه الأزمة الدبلوماسية بين البلدين قد اندلعت بعدما رفض الجانب الهولندي السماح لوزيرة الأسرة التركية ووزير الخارجية التركي بمخاطبة المسيرات في مدينة روتردام بشأن الاستفتاء المرتقب على التعديلات الدستورية في تركيا لتعزيز سلطات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وقد أتاحت هذه الأزمة لمارك روته فرصةً لرفض الانحناء في وجه الضغوطات الخارجية، وقد لاقى هذا الموقف دعماً حاشداً بين بني شعبه.
وقال أندريه كروفيل، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الحرة بأمستردام، إنَّ الصدام الدبلوماسي مع أنقرة منح رئيس الوزراء فرصةً لكي يقول للناخبين: "نحن الذين نحمي مصالحكم، ونحن الذين نُرابط في الخنادق للدفاع عن هولندا".
ما تأثير هذه النتيجة على خيرت فيلدرز؟
أصرَّ خيرت فيلدرز على أنَّ السياسات الشعبوية التي يُمثّلها هو ومن على شاكلته في أوروبا لن تذهب أدراج الرياح بغضّ النظر عن نتيجة الانتخابات، وظل يُكرر هذه الرسالة في أثناء تسرُّب المؤشرات الأولية لنتيجة الانتخابات.
وقال خيرت في تغريدةٍ له على موقع تويتر: "لم ير مارك روته وسائلي الأخرى بعد".
صحيحٌ أنَّ خيرت فيلدرز لم يفز في الانتخابات، ولكن يملك السياسي الهولندي، ذو الـ53 عاماً، سبباً وجيهاً ليملأ الدنيا ضجيجاً بالاحتفال بنجاح حزب الحرية الذي يُمثّله في زيادة عدد المقاعد البرلمانية التي فاز بها، بعد أن كان عددها 12 مقعداً فقط في الدورة البرلمانية المنقضية.
وقال خيرت في التغريدة ذاتها: "لقد فُزنا بعددٍ لا بأس به من المقاعد، وهذه أول قطرةٍ من غيث المكاسب التي سنحققها".
وكان خيرت قد أعلن في وقتٍ مبكرٍ من يوم الخميس 16 مارس استعداده للتعاون مع الحكومة الجديدة، وذلك مع أنَّ معظم الأحزاب تعهدت بعدم التعاون معه.
وقال خيرت لمُتابعيه على موقع تويتر: "ما زلتُ أرغب في مشاركتي في الحكومة ممثلاً عن حزب الحرية، إذا كان ذلك مُمكناً. أما إذا لم يكن مُمكناً، فسندعم مجلس الوزراء، حين يحتاج إلينا، في القضايا التي تهمنا".
وكان خيرت فيلدرز قد تعهّد في برنامجه الانتخابي، المُكوَّن من صفحةٍ واحدة، بغلق الحدود في وجه المُهاجرين القادمين من بلادٍ إسلامية، فضلاً عن إغلاق المساجد وحظر القرآن الكريم، والسعي إلى خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي.
ليلةٌ تاريخية لحزب اليسار الأخضر
أحد أكبر الفائزين من هذه الانتخابات هو حزب اليسار الأخضر، الذي صار أكثر الأحزاب اليسارية الهولندية حصولاً على المقاعد البرلمانية للمرة الأولى في تاريخه. هذا الحزب، الذي يرأسه جيسي كلافر البالغ من العمر 30 عاماً، وهو قائدٌ ذو شخصيةٍ قوية، ويُشبِّهه الكثيرون برئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، تضاعفت مقاعده من 4 مقاعد في الدورة البرلمانية السابقة إلى 16 مقعداً في البرلمان الحالي.
وقالت ماريولين ماير، إحدى القياديات في الحزب: "هذه نتيجةٌ مُذهلةٌ لنا، يا له من انتصارٍ تاريخي! أظهرت نتيجة الانتخابات وجود أرضيةٍ خصبة جداً للتغيير في هولندا. هذه قصةٌ إيجابية ومُفعمة بالأمل، ولا نعتبر هذه النتيجة إلا بدايةً لطموحاتنا".
ولم تتضح بعدُ نية جيسي كلافر وحزبه المُشاركة في الحكومة المقبلة، التي من المحتمل أن يُسيطر عليها حزب الشعب للحرية والديمقراطية تحت قيادة مارك روته، والأحزاب اليمينية الأُخرى.
ويبدو أنَّ حزب العمل اليساري الهولندي قد واجه هجوماً عنيفاً من أنصاره؛ بسبب دوره على مدار الأربعة أعوام الماضية في اتخاذ إجراءاتٍ تقشفية صارمة؛ إذ إنَّه كان حزب الأقلية في الحكومة، التي كانت مُكوَّنةً من حزب العمل وحزب الشعب للحرية والديمقراطية.
وليست هناك أي إمكانية لتكرار هذا الائتلاف بين حزب العمل وحزب الشعب للحرية والديمقراطية في الحكومة الجديدة، ومن المحتمل أن يختار رئيس الوزراء معاونيه بالحكومة الجديدة من الأحزاب اليمينية.
فرنسا هي الاختبار الحقيقي
رُغم خسارة خيرت فيلدرز في الانتخابات، قال السياسيون والخبراء، على حدٍ سواء، إنَّ هذه الهزيمة لا تُمثِّل سقوط التيار اليميني المتطرف في أوروبا.
فهناك انتخاباتٌ قادمة في فرنسا وألمانيا هذا العام، ويسعى فيها المُرشحون والأحزاب ذات الاتجاهات اليمينية المتطرفة لإحداث تغييرٍ حقيقي.
وقال مارتن شولتز، الزعيم الاشتراكي الألماني، في تغريدةٍ له على موقع تويتر: "لم يستطع خيرت فيلدرز الفوز في الانتخابات. أشعر بالارتياح حيال ذلك، ولكننا نحتاج إلى مواصلة معركتنا لتنعم أوروبا بالانفتاح والحرية".
وقالت مابل بريزين، أستاذ علم الاجتماع في جامعة كورنيل بالولايات المتحدة، إنَّ خسارة خيرت فيلدرز، الذي يحظى بعضوية البرلمان الهولندي منذ نحو عقدين، لا ينبغي اعتبارها علامةً على انحسار التيارات الشعبوية في أوروبا.
وقالت مابل: "خيرت فيلدرز لا يُمثِّل التيار الشعبوي؛ بل هو جزءٌ من المشهد السياسي العام، ولا يمكن أن نعرف الكثير عن التيار الشعبوي في أوروبا بمجرد نجاح حزبه أو إخفاقه. يتمثل الاختبار الحقيقي في ترشُّح مارين لوبان لانتخابات الرئاسة الفرنسية، والتي تبدأ في 23 أبريل/نيسان، هنا تتجلَّى حقيقة التيار الشعبوي، وهذا هو ما ينبغي أن نُركِّز عليه".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Telegraph البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.