مقدمة
ليتنا نستطيع الإبقاء على الحاضر الذي نعيشه ونتمكن من صلبه على جدار الزمن رغم مآسيه؛ ليكون سداً بوجه الغول القادم والوحش المفترس وأقصد "المستقبل"، الذي كنا نعلق عليه آمالاً كبيرة، فقد حمّل المتجبرون الجدد المستقبل بالعديد من "الألغام" التي ستنفجر بساحات أحلامنا وآمالنا لتنهيها، إن لم تنهِ حياتنا ووجودنا على ظهر البسيطة! هذه الألغام هي الشرور التي سيصفعنا بها شذّاذ الآفاق من أثرياء وذوي سلطة ومن عرق يحسبونه الأكثر تفوقاً! إنهم عتاة البشر وهم أقسى من الوحوش الضارية التي تعفُّ إن شبعت، ولكن هؤلاء يجوعون كلما شبعوا! فقد قررت الضواري البشرية أن الكوكب قد ضاق بما رحب، و"البقاء للأصلح" هو المبدأ الذي سيحكم المعادلة و"الأصلح" هنا هو الأقوى! وهم مدججون بفائض كبير من القوة العلمية والمالية والإلكترونية والبيولوجية المدعومة بأفتك الأسلحة العسكرية، ولنقرأ عن بعض هذه الأسلحة (الألغام) وكيفية استخدامها ضد أحلام أغلب سكان الكوكب!
الفرد ذو السيادة
من الأسلحة القادمة التي سيحملها المستقبل هو الفرد ذو السيادة The Sovereign Individual وهو الملياردير أو المليونير الذي سيكون ذا سيادة واستقلال كما الدولة ذات السيادة، تخيلوا! وهو شخص جشع وفاقد للحس الإنساني والوطني، ويعمل على تقويض دولة الرفاه Welfare State، أي الدولة التي تقدم خدمات كبيرة لمواطنيها كمعاشات التقاعد، ودعم أسعار المواد الأساسية كالدواء والغذاء والتعليم المجاني في كثير من الدول، ومساعدة المواطنين للحصول على سكن.. إلخ. وهو نظام الدولة المعمول به في معظم دول العالم بما فيها العالم المتقدم، وكما هو معروف فإن الدولة توفر مصاريف هذه الخدمات بشكل كبير -وخصوصاً الدول التي لا تملك موارد كبيرة- من جني الضرائب المفروضة على أصحاب الأموال والشركات الكبرى المنتجة التي يملكها أفراد أو جماعات.
إلا أن هذا الفرد أو تلك الجماعات -للأسف – كلما شبعوا، جاعوا! فهم لا يرغبون بدفع الضرائب لدولتهم التي توفر لهم البنية التحتية والأمن؛ حيث يرون أن هذه الضرائب مبالغ فيها، ولذلك قرروا الهجرة إلى عالم الإنترنت وإدارة أعمالهم منها ولو من بلدان أخرى أو حتى من جزر صناعية في عرض البحر.
وسيستخدمون التشفير غير القابل للاختراق والنقود الرقمية Digi Cash أو Cyber currencies للتمويه وخداع مصلحة الضرائب، وسيتفقون مع مَن يوفر لهم الحماية بعقد contract وبالسعر الذي يُتفق عليه وليس كالثمن الذي تأخذه الدولة! وبهذه العملية تكون دولة الرفاه قد خسرت الكثير من الأموال التي كانت تجنيها من الضرائب وتنفقها على مواطنيها، مما يدفعها للانقراض وظهور "الفرد ذي السيادة" بدل دولة الرفاه، فمن بعدها يدعم احتياجاتنا الأساسية؟ إضافة إلى أن أصحاب المليارات هؤلاء لن يوفروا إلا عقود عمل وليس وظائف دائمة كما توفرها الدولة، فقد يتوظف الإنسان لحين انتهاء العمل الموكل به فقط، أي لمدة معينة قد لا تزيد عن بضع سنين!!
الدارونية الاجتماعية
ومن أهم أذرع الغول القادم هو الدارونية الاجتماعية Social Darwinism، وهي النظرية "العلمية" التي بناها هيربرت سبنسر على مبدأ نظرية دارون في التطور، والتي قضت -أي نظرية دارون- بأن أنواع النبات والحيوان الأقدر على تحمل التغيرات البيئية هي التي تستمر في الحياة، بينما الأنواع التي لا تتماشى مع التطورات الجديدة فتندثر وتنقرض، ومثال الأخيرة هو الديناصورات وأنواع نباتية أخرى. وسمَّى هيربرت سبنسر هذا المبدأ Survival of the Fittest أو "البقاء للأصلح"! ولأنهم لا يملكون حساً إنسانياً على الإطلاق فقد قرروا تطبيق مبدأ البقاء للأصلح على المجتمع الإنساني وأطلقوا عليه اسم "الدارونية الاجتماعية"!
والدارونية الاجتماعية تعني أن حياة الناس في المجتمع ليست إلا صراعاً من أجل الوجود يحكمه قانون "البقاء للأصلح"، كما في أنواع الحيوان والنبات، ولذلك يصر مؤيدو الدارونية الاجتماعية على تفعيل نظرية رأسمالية السوق الحرة laissez-faire capitalism أي إبعاد الدولة عن الشؤون الاقتصادية وترك المجال للتنافس الشرس الذي لن يخرج منه متوسطو الحال مادياً سالمين، ناهيك عن الفقراء، فنرى أن محلات السوبرماركت العملاقة في كل المدن يملكها شخص واحد أو اثنان ووزعوا الفروع في كثير من الأحياء داخل المدينة الواحدة، والهدف طرد الضعفاء مادياً من السوق! وهم الذين يتحكمون بالأسعار وبإنتاج المواد الغذائية وأسعارها، وهم أصحاب كارتل الأدوية وهم من يحدد سعر الدواء، ولديهم قانون الملكية الفكرية الذي يعني أنهم يحتكرون ما اخترعوا وأنتجوا، ويقررون الأسعار والكمية المسموحة لغيرهم. الهدف إزاحة الطبقة الوسطى لتبقى طبقتان: السادة والعبيد، ومن الطبقة الثانية هناك الملايين ممن سيموت مرضاً وفقراً!!
اليمين البديل
وهناك أحدث الأسلحة وهو سلاح لا يقل خطورة عن سابقيه وقد قطع مرحلة مهمة في التكوين: اليمين البديل Alt Right. وهو اختصار لـ Alternative Right وهو اليمين الذي يتبنى العنصرية الصريحة والضمنية وتفوق العرق الأبيض، وهذا اليمين ناقم على اليمين المتطرف السائد حالياً؛ لأنه يعتبره ضعيفاً وعاجزاً لأنه لا يدعم بشكل فعال العنصرية والعداء للسامية -ومنها العداء لليهود- وربما هذا الأخير شيء جديد، وخاصة بالنسبة لنا كعرب! والدليل على تطرف اليمين البديل هو أنهم يعتبرون كل مسيحي أبيض محافظ حالي "ديوثاً"؛ لأنه يقدم مصالح اليهود وغير البيض على مصالح البيض! ويعرف اليمين البديل نفسه بأنهم أفراد يرفضون المساواة والديمقراطية والعولمة وتعدد الثقافات، وهم يؤكدون إنجازات البيض وتفوقهم العقلي والثقافي، ويديرون الآن عدداً من مراكز البحث، والمنشورات المباشرة على الهواء ودور النشر، ويعملون على جذب الشباب لاعتناق هذا الفكر المتطرف، وفي الأشهر القليلة الماضية، قام عدد من المنتمين لليمين البديل بتشجيع محاولة دونالد ترامب الرئاسية، ذلك أنهم رأوا في هذا المرشح الشعبوي حدة أقسى مما عند "الديوثين" -ويقصدون اليمينيين الحاليين- لموقفه من هجرة المسلمين إلى أميركا.
وبالرغم من صراحتهم في إيضاح هويتهم فإنهم يميلون إلى استخدام كلمة "ثقافة" بدلاً من كلمة "عرق"، ويقدمون مصطلح "الحضارة الغربية" ككلمة السر لثقافة وهوية العرق الأبيض! وأخيراً فهم معنيون بالحفاظ على الهوية الأوروبية الأميركية فحسب!
الخاتمة
ربما لم يعد هناك من آمال يُخشى عليها لأبناء جيلي، ولكن أحلام شبابنا وأطفالنا ستتبدد على أيدي وحوش العصر. ربما الذنب الأكبر لمعظم البشر أنهم فقراء أو أنهم ذوو بشرة ليست بيضاء، فلولا السبب الأول، كان يمكن تجاوز الثاني! ولكن إذا وُجد الأول (الفقر)، يظهر الثاني تلقائياً، ونخافهم ليس لأنهم يملكون فائضاً من القوة بكل أنواعها التكنولوجية والإلكترونية والعسكرية فحسب؛ بل لأنهم أيضاً بلا أخلاق أو حس إنساني! فتدميرهم للدولة الوطنية أو دولة الرفاه هو شبه إبادة لعشرات أو ربما مئات الملايين من البشر، والمصيبة أنهم، فعلاً، كلما شبعوا، جاعوا! الفرد يملك عشرات المليارات، لماذا؟ ولماذا يريد أن ينميها أكثر؟ لمن؟ ربما يشعرون بعبثية الحياة، ذلك أنهم نبذوا الدين خلف ظهورهم.
وللتعويض عن شعورهم بعبثية حياتهم، كما يقول فيلسوف العبث ألبير كامو، فإنهم يلجأون للتملك لعله يعطي لحياتهم معنى! ونأمل أن يدركوا أن ليس للحياة معنى إن لم يكن من قيمها رعاية الإنسانية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
2- Alt Right: A Primer about the New White Supremacy
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.